تُعد الكتابة واحدة من أعظم ابتكارات البشرية، حيث شكلت الأساس لنقل المعرفة وتوثيق الأحداث وتطور الحضارات ، تمثل الكتابة المسمارية أحد أهم إنجازات الحضارة السومرية في جنوب عراقنا الحبيب ، فهي ليست فقط أقدم نظام كتابة معروف في التاريخ، بل كانت نقطة تحول أساسية في تطور المجتمعات الإنسانية من المرحلة الشفوية إلى المرحلة التوثيقية. ابتكر السومريون هذا النظام المميز من الكتابة في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، ليصبح أداةً رئيسية في توثيق النصوص الإدارية والاقتصادية والدينية والأدبية، مؤثرًا بذلك في مسار التاريخ البشري ليس فقط في جنوب العراق العزيز بل في العالم اجمع.
ظهرت الكتابة المسمارية لأول مرة في مدينة الوركاء (أوروك) جنوب العراق، مع نهاية العصر الحجري النحاسي. ارتبطت بداياتها بالحاجة إلى توثيق العمليات الاقتصادية، حيث استُخدمت الرموز التصويرية لتسجيل الحسابات المتعلقة بالحبوب والمواشي. تطورت هذه الرموز تدريجيًا إلى أشكال أكثر تجريدية، ومع مطلع الألفية الثالثة قبل الميلاد، أصبحت الكتابة المسمارية نظامًا متكاملًا. كتب السومريون باستخدام أقلام من القصب على ألواح طينية طرية، حيث تُضغط القلم على الطين لتكوين أشكال تشبه الأوتاد. وبعد الكتابة، تُجفف الألواح إما في الشمس أو باستخدام حرارة النار لتصبح صلبة ودائمة. استخدم هذا النظام الخطوط الأفقية والعمودية لتشكيل الرموز، ما جعلها مرنة وقابلة للتطور. كانت الحاجة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية والإدارية الدافع الرئيسي وراء ابتكار الكتابة المسمارية. استُخدمت لتوثيق الضرائب والمعاملات التجارية والإحصاءات الزراعية. على سبيل المثال، تحتوي ألواح “أوروك IV” على قوائم بالحسابات الزراعية، مما يعكس النظام الإداري المتقدم في المدن السومرية. لعبت الكتابة المسمارية دورًا رئيسيًا في تدوين النصوص الدينية، مثل الصلوات والأناشيد والأساطير. تُعد ملحمة ( كلكامش) أقدم عمل أدبي مكتوب، أحد أهمز النصوص التي كُتبت بالمسمارية، حيث عكست المعتقدات الدينية والفلسفية لدى السومريين. كان السومريون أول من دون القوانين باستخدام المسمارية، مثل قوانين (أورنمو) التي تُعتبر أقدم قانون مكتوب في العالم. ساهمت هذه القوانين في تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما يدل على تأثير الكتابة في بناء المجتمعات. لم يقتصر استخدام الكتابة المسمارية على السومريين، بل انتقلت إلى الحضارات المجاورة مثل الأكديين، البابليين، والآشوريين، حيث تبنوها وطوروها. استُخدمت المسمارية في كتابة نصوص بلغات متعددة، مثل الأكدية والحورية والحثية، مما جعلها لغة مشتركة للحضارات القديمة. أتاحت الكتابة المسمارية حفظ المعرفة عبر الأجيال، مما ساهم في بناء الحضارات المتقدمة. فهي وثقت الإنجازات العلمية، مثل الجداول الفلكية والنصوص الطبية، ما أثر بشكل كبير على تطور العلوم. بفضل المسمارية، تم توثيق التبادلات الثقافية بين حضارات الشرق الأدنى القديم. ساهمت في نقل الأفكار والأساطير والعادات من حضارة إلى أخرى، مما عزز التفاعل الحضاري. لقد مثلت الكتابة المسمارية حجر الزاوية في نشوء الحضارات الأولى، حيث ساهمت في تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وشكلت أساسًا لنقل المعرفة وتطوير العلوم. بفضل هذا الانجاز السومري ، دخلت البشرية عصر التوثيق، مما مهد الطريق لبناء حضارات متقدمة أثرت في التاريخ الإنساني بشكل عميق. إن إرث الكتابة المسمارية لا يزال يذكرنا بالعبقرية السومرية ودورها مهم في صنع التاريخ.