الكلمة بين سلطة المعجم واستعمال نهج البلاغة
تمثلُ اللغة الإنسانية المراحل العليا من التفكير الإنساني والتي تترجم إلى الواقع عن طريق نطق الكلمات، كذلكَ هي كالكائنات الحية في نموها وتطورها يظهرُ ذلكَ جليًا في اختلاف ألسنة المتكلمين، فلكلِ بيئةٍ لغويةٍ ألفاظ يستعملها ذلك المجتمع ، لكنَ هذه الألفاظ لمْ تبقَ على استعمالٍ واحدٍ عندَ تبدل الأجيال ، سرعان مايصيبها التطور عِبرَ زمن معين .
وبما أنّ الحياةَ الإجتماعية التي تخصُّ المجتمع المعين تحيطُ بها ظروف وملابسات تستدعيها الحاجة الماسّة ، فكذلك البيئة اللغوية تُحَتمُ على المجتمع التواصل والتفاعل فيما بينهم لديمومة الحياة عن طريق التواصل والإندماج عِبر المهن والحِرَف والعادات والتقاليد التي تتمتع بها تلكَ الجماعة اللغوية، لكن سرعان ماينحسر استعمال تلكَ الألفاظ فيتغير معناها، أوتستبدلُ بألفاظٍ أُخرى تُناسب ذلكَ الزمن . كذلك عند تطور المجتمعات تكون هناكَ أمورٌ جاذبة لأفراده ، كالبيئة الجديدة التي تتمثل بتطور المجال العمراني ، وإضفاء علامات الجمال والتزويق لكل مفاصل الحياة ، فمن الطبيعي أنْ تستبدل بعض ألفاظ اللغة المركزية لمسايرة ذلك التطور ، ويمكن للدارس أنْ يرى هذا جليًا لاغبارَ عليه في اختلاف اللهجات بين مجتمع وآخر، فاللغة ترتبط بحياة الشعوب عِبْر الزّمن ، وتطورها ضرورة مُلحة يرجع بفائدته على اللغة نفسها، نتيجة لإكتنازها إرث كبير من الألفاظ ، أيضًا أنّهُ يتماشى مع سَيْرِ الحياة الطبيعية للمجتمعات كافة إلا ماندر، كإنْ يكون في جزيرة أو مكان مُنعزل عن باقي المجتمعات ، لكن هذا التطور لايسير وفق الأهواء والمصادفات أو تبعًا لأهواء كل فرد ، وإنّما يحتكم إلى قوانين شائعة واضحة المعالم والنتائج ، وليسَ بمقدور أحد على تغيرها، بمعنى أنّ التطور يسير وفق تدرج منطقي مُتسلسل يستدعيها ذلك المجتمع لمواجهة تلك الظروف ، وهذه الأمور بحاجة ماسّة إلى شيءٍ يجمعها وينظم أفكارها ويضعها في مسار التطور وهي اللغة الإنسانية الإجتماعية التي تجمع كل تلكَ الأفكار وتوجهها وتنظمها عبر قاسم مُشترك .
يقولُ أولمان:(( إنَّ ابتكارَ المفردات وصوغ كلمات جديدة من أصول قديمة ، والإقتراض من لغة إلى أخرى ، وتغير المعنى هي الطرائق الأساسية التي عن طريقها يتجددُ الرصيد الموروث من الثروة اللفظية)).() وهذا التغير الذي ذُكر هو تغير طبيعي يحصلُ في كلِ اللغات من غيرِ أنْ يستشعرَ به الناس، أو يعلموهُ مسبقا، ويمكن أنْ يُرصَدَ ذلك بوعي عند الدارسين للغة معينة عن طريق رصدِ استعمال المفردة عبرَ انتقالها من مجال دلالي إلى آخر كالإنتقال من الحقيقة إلى المجاز، لأنّ اللغة تتسم بالمرونة والحركية وانبعاث الحياة فيها يكمن في استعمالها ، وهنا قد تتخلف الدلالة الأساسية للكلمة فاسحة مكانها للدلالة السياقية أو لقيمة تعبيرية أو أسلوبية ، وسرعان مايتبدل مفهوم الكلمة الأساسي الجديد ، ليحل محلهُ مفهوم آخر، وهكذا يستمر التطور في حركة لامتناهية تتميز بالبطء والخفاء () ولمْ يقتصر التطور اللغوي على ماذُكِرَ سابقا، بل تعداهُ إلى التطور الصرفي- وهو تطور لافتٌ للنظر، وبِعد اللغة العربية على وجه الخصوص لغة اشتقاقية ، فالعرب فرقوا بين الجامد والمتصرف أو المشتق ، فتركوا الجامد وتصرفوا في المشتق وأخذوا من المشتق الأفعال والأسماء واسم الفاعل والمفعول والمكان والمصدر والمصدر الميمي والدال على المرة والهيئة واسم الآلة القياسي وغيره ، وقلّما اشتقوا فعلا من الاسم الجامد إلا في القليل النادر الذي لايقاس عليه ، ثم تصرفوا بهذا النادر ثانية فأخذوا منه المضارع والمصدر واسم المكان وغيره فقالوا : في عسكر : يعسكرُ ومعسكَرٌ وعساكر، وعسكرة، وفي فرعونَ : فرعنَ ويفرعن وفرعنة على وزن على فعللَ ويفعللُ وفعللة ، ومن يهود: يهوّدُ، ومن مجوس: يمجَّسُ .. وهلُمَ جرا () وسأتناول في هذا المقال بعض الألفاظ المشار إليها في العنوان الرئيس.
(1) المَرَحُ : وردتْ هذه اللفظة في خطبة جاءَتْ في سياق ذكر خلقة الطاووس، فتطورتْ دلالة المفردة نحو الرقي وأصبح معناها شدة الفرح ، بعد أنْ كانتْ تطلق على الباطل. يقولُ فيها :
(( يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْـمُخْتَالِ ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ ، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ )).() والمَرَح في اللغة:(( الْمِيمُ وَالرَّاءُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَسَرَّةٍ لَا يَكَادُ يَسْتَقِرُّ مَعَهَا طَرَبًا ..وَمَرْحَى: كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ وَإِعْجَابٍ. يُقَالُ لِلرَّامِي إِذَا أَصَابَ: مَرْحَى لَهُ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَإِذَا أَخْطَأَ قَالُوا بَرْحَى )).( ) والفرق بين المَرح والفَرح كما ذُكِرَ عند صاحب الفروق:(( إنَّ الفرحَ قد يكون بحقه فيحمد عليه، وقد يكون بالباطل فيندم عليه. والمرح لا يكون إلا بالباطل)).( ) يقولُ الشارح محمد عبده في توجيهه لدلالة لفظة المَرَح ومعناها في نهج البلاغة :((المعجبُ والمختال الزاهي في حسنه )).() وعلى هذا أنّ استعمال الإمام (عليه السلام) لهذه اللفظة كان نصًا في [ الفرح ] ، والذي حَكَمَ بذلك السياق، فالطاووس طائرٌ جميل المنظر، وبجماله يكون كل من يراه يطيرُ فرحًا ، ويبتهجُ سرورًا ، أيضا أنّ عبارةَ ” وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ” جعلتْ استعمال اللفظة نصًا في الفرح ، وهنا يُلحَظ تطور دلالة اللفظة نحو الرُّقي بعد أنْ كانتْ لاتُطلق إلا في سياق الباطل ، أضحتْ نصًا في الدلالة على الفرح في استعمال الإمام ( عليه السلام)، فارتفعتْ دلالتها.
(2) المرقبة : استعملَ الإمام هذه اللفظة في كتاب له ( عليه السلام) إلى معاوية ، فانتقلتْ دلالة اللفظة من الدلالة على المكان المخصوص للارتقاب ، إلى الدلالة على علو المرتبة ، وهنا يَلحَظ رقي الدلالة ، يقولُ فيه : (( وَقدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفانِينَ مِنَ الْقَوْلِ ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ ، وَأَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا مِنْكَ عِلْمٌ وَلاَ حِلْمٌ ، أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ ، وَالخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ، وَتَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَة بَعِيدَةِ الْمَرَامِ ، نَازِحَةِ الأعْلاَمِ ، تَقْصُرُ دوُنَهَا الأَنُوقُ)).() والمرقبة في اللغة : (( الرَّاءُ وَالْقَافُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ مُطَّرِدٌ، يَدُلُّ عَلَى انْتِصَابٍ لِمُرَاعَاةِ شَيْءٍ. مِنْ ذَلِكَ الرَّقِيبُ، وَهُوَ الْحَافِظُ. يُقَالُ مِنْهُ رَقَبْتُ أَرْقُبُ رِقْبَةً وَرِقْبَانًا. وَالْمَرْقَبُ: الْمَكَانُ الْعَالِي يَقِفُ عَلَيْهِ النَّاظِرُ، وَالرَّقِيبُ: الْمُوَكَّلُ فِي الْمَيْسِرِ بِالضَّرِيبِ. وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِقَاقُ الرَّقَبَةِ، لِأَنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ، وَلِأَنَّ النَّاظِرَ لَا بُدَّ يَنْتَصِبُ عِنْدَ نَظَرِهِ. وَالْمُرَقَّبُ: الْجِلْدُ يُسْلَخُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ وَرَقَبَتِهِ. وَرَقَّابَةُ الرَّحْلِ: الْوَغْدُ الَّذِي يَرْقُبُ لِلْقَوْمِ رَحْلَهُمْ إِذَا غَابُوا.. وَرِقَابُ الْمَزَاوِدِ: لَقَبٌ لِلْعَجَمِ، لِأَنَّهُمْ حُمْرٌ. وَالرَّقِيبُ: السَّهْمُ الثَّالِثُ مِنَ السَّبْعَةِ الَّتِي لَهَا أَنْصِبَاءُ، كَأَنَّهُ يُرْقَبُ مَتَى يَخْرُجُ )).() جاءَ في شرح ابن أبي الحديد : (( والمرقبة : الموضع العالي ، والأعلام : جمع علم، وهو يُهتدى به في الطرقات من المنار، يقولُ لهُ : سَمَتْ همّتُك إلى دعوى الخلافة ، وهي منكَ كالمرقبة التي لاتُرام على من يطلبها ، وليسَ فيها أعلام تهدي إلى سلوك طريقها ، أي الطرق إليها غامضة كالجبل الأملس الذي أو ليسَ فيه درج ومراق يسلك منها إلى ذروته)).() وهنا يُلحظُ انتقال دلالة اللفظة من المجرد وهو مكان الارتقاب ، إلى المحسوس، أي من مكان الإرتقاب إلى السمو والرفعة والسبب في هذا التطور هو الحاجة إلى وجود مثل هذه المفردات لتقوية المعنى عن طريقِ السياق، فيعد هذا نوع من التطور الدلالي للمفردة نحو الرقي . (3) لهاميم : وردتْ هذه اللفظة في خطبة له ( عليه السلام) جاءتْ في سياق ذكر أيام صفين يقولُ فيها: (( وَقَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ، وَانْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ، تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ ، وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ)).() واللهميم في اللغة :(( قَالَ اللَّيْث: فَرَسٌ لِهَمٌّ ، ولِهْمِيم : سابقٌ يجْرِي أَمَام الْخَيل لالتهامه الأرضَ ، والجميع لهَامِيم، ورجُلٌ لَهُوم : أكول. وَيُقَال أَلْهَمَهُ الله خيرا: أَي لقَّنه خيرا، ونَسْتَلْهِمُ الله الرَّشاد. وجيشٌ لُهام: يَغْتمِرُ من يَدْخُله : أَي يُغيَّب مافي وَسَطه. وَقَالَ الأصمعيّ: إبلٌ لهامِيم إِذا كَانَت غِزاراً، واحدتُها لُهْمُوم وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت كَثِيرَة المشْي )).( ) جاءَ في النهاية في غريب الحديث:(( وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ« وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ العَرب » هِيَ جَمْع لُهْمُوم ، وَهُوَ الجَوْاد مِنَ النَّاسِ والخَيْل)).() وهناكَ نكتة من استعمال لفظة [ لهاميم ] بطريقة الجمع وليس بالمفرد أشارَ إليها العلوي في طرازه بقوله :( هو أنَّ لفظة « لهاميم » وهم الرؤساء فإن استعماله مجموعا أفصح من استعماله مفردا).() وهنا يُلحَظُ تطور الدلالة نحو الرقي والارتفاع ، فبعد أنْ كانتْ تطلق على الإنسان والفرس والإبل ، ارتقتْ وارتفعت دلالتها فأصبحتْ تدلُ على [ وصف العِلية من العرب ]، والسبب الحاجة إلى استعمال مثل هكذا ألفاظ لتقوية منزلة الممدوح لما لها من المكانة والوجاهة التي لاتعوضها لفظة أخرى .
(4) يآفيخ : استُعمِلتْ هذه اللفظة في خطبةٍ ورَدَتْ في سياق ذكر أيام صفين، يقولُ في جزءٍ منها، :(( وَقَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ ، وَانْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ، تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ ، وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ ، وَيَآفِيخُ الشَّرَفِ )).() واليآفيخ في اللغة:(( أفخْتُ الرجُلَ، إذاً ضربْت يافوخه ،( والجمع يآفيخٌ ). ويافوخ الليل معظمه . ومضى يافوخ من الليل، أي: قطع )).() وَردَ في النهاية في غريب الحديث إثناء ذكر هذه اللفظة :(( هُوَ المَوْضِع الَّذِي يَتَحرّك مِنْ وَسَطِ رَأسِ الطِّفلِ، ويُجْمع عَلَى يَآفِيخِ. وَالْيَاءُ زائدة. وإنّما ذكرناه هاهنا حمْلاً عَلَى ظَاهِرِ لَفْظه. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ « وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ العَرب، ويَآفِيخ الشَّرَف » اسْتَعار للشَّرَف رُؤوساً وجَعَلَهُم وسَطَهَا وأعْلاها)).() يقولُ الشارح البحراني في معرض حديثه عن دلالة لفظة [ اليآفيخ ] : (( واستعارَ لفظ اليوافيخ لهم ، إذ كانوا بالنسبة إلى العرب في علوّهم وشرفهم كاليوافيخ بالنسبةِ إلى الأبدان)).() وهنا يُشاهد انتقال اللفظة من معناها اللغوي المُحَدّد لها سلفا، إلى معنًى آخر اتجهَ نحو الرّقي، فبعد انْ كانتْ تطلقُ على الجزء الأعلى من الرأس، ارتقتْ وارتفعتْ دلالتها عن طريق الاستعارة ، لتدل على علو المرتبة وسموها ، لأنّ العربي يعد الرأس بمثابة قمة الهرم في تركيبة جسم الإنسان لاحتوائه على اللب.