اللهجات العراقية العاميَّة وصلتها بالعربية الفصحى
إعداد الطالب: كرار هادي جاسم
دكتوراه/ لغة
لقد اهتمّ علماؤنا الأعلام –جزاهم الله خيرا- بدراسة اللغة العربيّة من مختلف الزوايا، وأسسوا لنا الدعائم والركائز التي صارت منهاجا علميّا، ونبراسا يستضاء به لكلّ دارس ومهتمّ بهذه اللغة العظيمة، وليس خفيّا على الدارسين أنّ اللغة العربيّة قد دُرست من أبناء غيرها كثيرا –كالمستشرقين وغيرهم-؛ لذا كان حريّا بنا أن نعطي وقتا وجهدا وإن كان يسيرا للتأمّل في بعض جوانبها الناصعة المشرقة.
والعرب أقوام تعدّدت لغاتهم (لهجاتهم)، وتنوّعت لأسباب كثيرة، منها: التنوّع الجغرافي لشبه جزيرة العرب، والتنوّع الاجتماعي، والديني، والأخلاقي، والعقدي …إلخ، فأنتج هذا التنوّع لهجات عدّة تبعا لتوزيع الأقوام العربية البدويّة والحضريّة على حدّ سواء، ومن هذه اللهجات: لهجة تميم، وأسد، وقريش، وهذيل، وعقيل، ومذحج، ….إلخ، وقد نزل القرآن الكريم بلهجات مختلفة –كما يذهب إليه عدد غير قليل من العلماء قدامى ومحدثين- حتى وصل عددها في التنزيل العزيز خمسين لهجة تقريبا.
إنّ رصد التغير والديناميكية والانتقال الاستعمالي والدلالي الذي تُضفيه اللهجات على اللغة يبدو أمرا سهلا للوهلة الأولى، لكنّه يتصاعب بمجرّد أن يبدأ الباحث بالاشتغال على بحث معيّن فيها؛ إذ الدراسة اللهجيّة تتطلّب من باحثها ثقافة واسعة واطّلاع وافر بشارد اللغة وواردها، وبهذا فالاستهانة بهذا الحقل المعرفيّ اللغويّ المهمّ غفلة وجهل بلا ريب.
وقد تنبّه علماؤنا الأفذاذ إلى الجانب اللهجي من اللغة، وفحصوه مُمحّصين، وعالجوا قضاياه برواية اللفظة المعيّنة ونسبتها إلى لسان قومها، وفرزوا جانبا عميقا من جوانبها، وهو جعلها على قسمين: لغة الخواصّ، ولغة العوامّ، وهذا الأمر في غاية الأهمّيّة.
ومن هذه الألفاظ :
ـــ جِرِش: وهذه اللفظة مأخوذة من(جَرَشَ) وهو فعل متعدٍّ له اشتقاقات عدّة، ويدلّ عادة على الكثرة، فيستعمل استعمالات كثيرة، منها: إطلاقه على كثرة الأكل في العامية العراقية الفراتية، و استخدامه بمعنى (طَحَنَ)، وأيضا تعطي معنى البرد الشديد فيقولون: (الدنيا مجرشة واللبن مجرّش)، ويستعملون هذه المفردة مع البقول فيقولون (حمص مجروش) أي: على هيأة أشبه ما يكون بالمطحون ولم يرقَ إليه، ولكن طحينه ليس ناعما فيه نوع من الخشونة، ومنها اشتقوا (المجرشة) آلة طحن الحبوب أو اسم لمكان الجرش في كلّ مدينة تقريبا؛ وزيادة على هذا المعنى، فهم يستعملونه أيضاً لمن يتكلم كثيرا، فيقولون: انه (يجرش جرش ميخلّي واحد يحجي)، والجرش في اللغة ” الجَرْش: حَكّ الشيء الخَشِنِ بمثله ودلْكُه كما تجرُش الأَفعى أَنيابها إذا احْتَكَّت أَطْواؤها تَسْمَع لذلك صَوتاً وجَرْشاً. وقيل: هو قَشْرُه؛ جَرَشَه يَجْرُشُه ويجرِشه جرشاً، فهو مَجْروش وجَرِيش. والجُراشَة: ما سقَط من الشيءِ تجرُشه. التهذيب: جُراشة الشيء ما سقط منه جَرِيشاً إذا أُخذ ما دق منه. … والمِلْح الجَرِيشُ: المَجروش كأَنه قد حَكّ بعضُه بَعْضاً فتفتت. والجَريش: دَقيقٌ فيه غِلَظٌ يَصْلح لِلْخَبِيص المُرَمَّل”(). ويوضح الزبيدي “ والجُرَشِيَّةُ: ضَرْبٌ من الشَّعِيرِ أَو البُرّ”()، وهذا يطابق المعنى الأول المستعمل باللهجة الفراتية، اما المعنى الثاني فأرى انه قد انجرّ من الأول بتطور دلالي، أي ان الشخص لكثرة كلامه فكأنه يثير الضجّة المشابهة لصوت آلة الجرش أو الطحن ذات الصوت العالي، وهي تقال غالبا في مواطن المزاح، ولا يفوتنا التذكير بالاستعمال العشائري لهذه المفردة، حيث يقال: (عائلة فلان ذابين جرش عشيرة آل فلان) أي: على حلف معهم أو أكثر من ذلك.