اللون الأخضر ايقونة الحياة والتجدد في المدونة القرآنية
    شكلت الأيقونية اللونية في الخطاب القرآني حضورا لافتا للنظر ، لما له من قيمة إيحائية ومنها: اللون الأخضر فقد جاء ترتيبه ثانيا من حيث توظيفه في النص القرآني بعد اللون الأبيض، لما يملكه من حضور جمالي يسر المتلقي ويريح بصره ويبعث في قلبه المسرة والارتياح ، فقد ورد اللون الأخضر في سبع سُوَر وثماني مرات بدلالات مختلفة بحسب الفكرة والسياق والنسق الذي ورد فيه ، ولعله يعود إلى قيمته ومكانته لدى المتلقي وما يتركه فيه من اثر نفسي ، الناتج من غلبة البيئة الصحراوية في البيئة العربية . وان كان في بعض الآيات جاء لوصف حالة معينة وقعت في بلد تكثر فيه الأراضي الزراعية ، ولكننا ننظر إلى توظيفه في نص نزل في بيئة تشح فيها الأراضي الخضراء لا من حيث وقوع الحدث . ( وقد توزع اللون الأخضر على النبات ، والأرض ، والحيوان ، واللباس ) 30 .  كما قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ  انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام/99))31 .
   إنَ الآية القرآنية تشير إلى أهمية وعمومية اللون الأخضر في النبات بوصفه دلالة على الحياة فيه ، وان تغير لونه في بعض الأحيان لا يدل على موته ؛ وإنما على نضجه ، لأن الصفة الملازمة للنبات منذ خروجه من الأرض هي الاخضرار ، ثم بعد ذلك يتخذ ألوانا أخرى بحسب طبيعته وفسلجته ، وهذا اللون يعطي جمالية ليست محصورة في النبات ؛ وإنما تكتسي الأرض كذلك بجمالية النبات بعد إن كانت جرداء ، وهذا الجمال نابع من اللون الأخضر تارة ، وتارة أخرى بيان للقدرة الإلهية في إحياء الأرض التي يعتقد الإنسان أنه لا يمكن إحياؤها . فالأيقونة اللونية في النص حملت دلالتين هما: جمالية والأخرى إعجازية .
 
٢- تتخذ الأيقونية اللونية الخضراء دلالة جديدة متمثلة بجمالية اللون وسريان الحياة فيه ملؤها العطاء والخصب ، وتأمين العيش الرغيد في مواجهة الموت وجدب الحياة ، فجاء اللون الأخضر لتفسير رؤيا ؛ لما يحمله من حقيقة راسخة في أذهان المتلقي بايجابيته ، ومنفذا لإظهار الحقيقة الخافية ، وموتا للظلم ورعاته من الكهنة ؛ و انبعاث حياة جديدة  قائمة على الإنصاف . كما في قوله تعالى : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ  يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ  ( يوسف/٤٣ )) ٣2 . فالخطاب القرآني صريح بوصفه لرؤيا فرعون مصر ؛وهو يرى في منامه تعدد هذه الرؤيا التي دعته إلى المطالبة بإيجاد التفسير أو التأويل لها من خلال بيان دلالة اللون الأخضر في السنبلات الخضر التي أكلتها السنبلات اليابسات ، فالسنابل اليابسة دلالة على الموت والجدب والقحط والفناء، إذ يرد اللون الأصفر في الخطاب القرآني يحمل تارة دلالة النضوج الدالة على توفر الطعام ورخاء العيش، وتارة أخرى يدل على الموت وهو المراد به في هذا النص ، فعبر عنه بالسنبلات اليابسة ؛ بينما السنابل الخضراء ذات دلالة مشحونة بالحياة التي تحمل الأمان وبعث الراحة والاطمئنان لدى المتلقي ، ولترسيخ هذه الدلالة فقد جاءت الدلالة اللونية الخضراء في آية أخرى تحمل الدلالة الإيجابية ذاتها ، كما في قوله تعالى : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (يوسف/44)٣3 . فاللون الأخضر في السنبلات الخضراء قابلت البقرات السمان ؛ وهي دلالة واضحة للإشارة إلى أن السنابل الخضراء باعثة للحياة والرخاء والخصب والعطاء وتوفر الطعام الذي ينتج منه وجود بقرات سمان ، بينما جاءت دلالة السنبلات اليابسات الفاقدة للحياة باعثة للقحط والجوع وضنك العيش ؛ قابلت البقرات العجاف الدالة على فقدان مقومات العيش الرغيد وعدم توفر الطعام . فالأيقونة اللونية ذات دلالات متعددة منها : الخصب والعطاء والحياة ، واللونية المحضة ، والتحول من الظلم إلى الإنصاف والعدالة ، والحياة الباقية بدل الحياة الفانية ، والقدرة على الإدارة والتخطيط بدل السياسية القائمة على امتصاص قوت الشعب والاستحواذ على مقومات حياتهم الكريمة .
 
٣- وتبقى دلالة اللون الأخضر ضمن هذا الإطار اللوني الجمالي المحض ، لما يتركه هذا اللون من ارتياح ومنزلة لدى المتلقي ، فجاء توصيف للثياب أهل الجنة دلالة على أن الحياة باقية تسري فيهم ؛ كناية عن قدرتهم على التمييز بين الحق والباطل ، وسلوكهم في طريق الله ، فكان اللون الأخضر للثياب يمثل أيقونة لونية تحمل دلالات متعددة منها : الأولى اللونية المحضة ، والثانية تدل على الحياة ، أي إنهم أحياء لا أموات ؛ لقدرتهم على التمييز بين الحق والباطل على خلاف أهل الضلالة الذين وصفهم الخطاب القرآني بالأموات سواء أكانوا في الدنيا أم في الآخرة . والثالثة دلالة على نعيم الحياة الأخروية التي ينعمون بها في دار الخلود . كما في قوله تعالى : أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴿ الأنعام/٣١﴾)٣4. ولم تقتصر الأيقونة اللونية الخضراء على الثياب فقط ، بل اتخذت دلالة وبعدا آخر يتمثل بجمالية المكان المحاط بالأشجار والأوراق الخضراء والثمار أو ( ضرب من الثياب مشبه بالرياض ) ٣5. لمساكن المؤمنين وهم في سكينة وطمأنينة عليهم سيماء الوقار والعز كما في قوله تعالى : (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ  وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴿ الإنسان/٢١﴾)٣6.
 
٤- ومن الدلالات الأيقونية للون الأخضر في المدونة القرآنية ؛ ما يرتبط بالقدرة الإلهية لبيان القصور العقلي وعجزه لدى الكافرين ؛ من خلال عدم الإبصار بما يحيطهم من آيات كونية تبين القدرة الإلهية والتفكر بها، على الرغم من معايشتهم لهذه الآيات ؛ ولكن عدم الالتفات إليها ينتج عدم الإبصار لحقيقة خالقها ببطلان اعتقاداتهم وضلالة تفكيرهم ؛ فجاء الخطاب يحمل صيغة السؤال والتذكير للناس بقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً  إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( الحج/63)) ٣7 . فجاءت الإيقونة اللونية الخضراء تحمل دلالة الإحياء للأرض الهامدة التي لا حياة فيها ؛ لغرض لفت انتباه الناس وإعادتهم إلى الصواب والتفكير السليم بمنطق وعقلانية ودلائل معيشة ؛ وهو تحول الأرض الجرداء إلى أرض خضراء مفعمة بالحياة ،وذات جمالية تبعث الارتياح والأمان لدى المتلقي ، وهذا التحول وبعث الحياة ناتج بفعل القدرة الإلهية ووسائل بعث الحياة الممثلة بانهمار الماء من السماء . فدلالة الإيقونة تحمل القدرة الإلهية الإعجازية ، والجمالية اللونية المحضة ، وبعث الحياة بعد الموت و وذات دلالة نفعية بتحول الأشجار الخضراء التي تؤمن الطعام إلى منفعة أخرى لإنضاج الطعام والتدفئة ، كما في قوله تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ( يس/80)) ٣8 .                                                                                                                                                        
ومن نافلة القول أن الأيقونة اللونية الخضراء اشتغلت على مساحة واسعة في الخطاب القرآني ، فقد جاء ترتيبها ثانيا من حيث حضورها واشتغالاتها ، لما فيها من دلاللات إيحائية تدل على النعيم لتوق القبائل البعيدة عن الحواضر المستقرة إلى المساحات الخضراء وافتقادهم إليها ، لأنها تمثل مصدر الحياة في توفير الغذاء وتوظيف اللون الأخضر بهذه المساحة يتناسب مع ذائقتهم الباحثة عن الاستقرار اجتماعيا واقتصاديا ، كما وُظَف للدلالة على المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في المأكل والملبس والأثاث .
 

شارك هذا الموضوع: