اللون ايقونة اجتماعية في المدونة القرآنية
اتخذت الدراسات النقدية الحديثة أطراً جديدة ، حاولت جاهدة أن تنتزع من النص لباس وقوالب الأطر القديمة التي كانت بها تتم إنتاجية النص ، بصرف النظر عن الطريقة أو الأدوات التي يتعامل بها المتلقي مع النص . فكانت الدراسات اللسانية بمختلف توجهاتها ؛ وتوسع قراءاتها وتعدد مشاربها ، جعلت من شبكة العلاقات وأنسجتها رابطة له ، مستفيدة من انساق بنائه ، على وفق قراءات شمولية ومستوعبة لكل بنية فيه ، من خلال الحفر في اركولوجية النص ؛ بوصفه طبقات متعددة تحمل بنى ثقافية مضمرة تتحكم بالنص ، لاسيما الاجتماعية والثقافية والظروف البيئية المطمورة في النص ، بوصفها بنى ثقافية غير ظاهرة ، ومن هذه البنى سسيولوجية اللون في الخطاب القرآني لأنه حمل دلالة نسقية مشحونة بحمولة مؤثرة في المجتمع العربي ، اكتنزت فيها ثقافته وسلوكياته وعاكسة لطبيعة تعامله ، فجاءت هذه القراءة لتحفر في نصيات المدونة القرآنية في توظيفها للألوان أيقونة اجتماعية لفظية مختزلة ألفاظا كثيرة بصور معبرة قوامها الصورة اللونية في تفسير الظواهر الاجتماعية بأيقونة لونية .
تعد المدونة القرآنية نصا زاخرا ومعينا ثرا للبحث والدراسة من نواح مختلفة ، إذ تمتلك نصوصه سيرورة معنوية وإشعاعا دلاليا لا ينتهي ؛ إذ لا يضاهيه من قبل أي نص آخر ، فهو معجزة الرسول الخالدة ، والنص الأول للعربية والأمثل لها ، فقد جاء معجزا في مبانيه ومعانيه في آن واحد معا ؛فجاءت القراءة بعنوان (اللون في القرآن الكريم دراسة اجتماعية ) ، ولم تتوقف القراءة على دراسة اللون في القرآن الكريم بحسب تفسيره بالقراءة التقليدية أو الوقوف عند الدلالات الأولية له . أو الأثر النفسي تجاه اللون لدى المتلقي ، بل كانت الدراسة محاولة في التنقيب في حفريات النص من خلال استكناه طبقاته والوقوف عند الأسباب الكامنة التي دعت إلى توظيف استعمال اللون في الخطاب في مواقف معينة واحداث راسخة لدى العرب واستكناه المسكوت عنه أو مالم يصرح به ، للدلالة العميقة فيه ؛ وقد تنوعت تنوعا ملحوظا ؛ تساوقا مع المعاني التي سيقت لبيانها ، من خلال الدرس النقدي الثقافي المعاصر للخطاب القرآني وإعادة قراءته بجعل فعل الخطاب مفتوحا على آفاق النص القادر على مواكبة الخطاب القرآني ؛ لأنه يحمل أسرارا كثيرة تستفز المتلقي لفك رموزه انطلاقا من فهم العلاقة الجدلية بين الدال والمدلول أو بين الحضور والغياب ؛ وهو أمر دفع اتجاه الدرس نحو مناطق اشتغال تستحق أن يكون لها نصيبا ، بعد أن يلقي بضلاله على تمفصلات النص وأبعاده الرمزية التي أُنتج بها كأيقونات ، أو علامات لونية خارج نصية أو نصية قارة أو على أساس هذه المفاهيم.
وظيفة الأيقونة :
الأيقونة نافذة تكتنز دلالات متعددة يمكن الوصول إليها عن طريق المشابهة بوجود القرائن اللفظية أو الصورية ؛التي تدل عليها ، أو بعدم وجود المشابهة ، ويكون اكتشافها أو الوصول إليها بوساطة العلاقات التأويلية التي يستنتجها المتلقي ، من خلال قرائن قد تكون غير ظاهرة ؛ يستبطنها النص ويتم إنتاجها عبر التأويل والإدراك العقلي لهذه الدلالات ؛ وقد تأتي الأيقونة بصور مختلفة قد تكون لفظية أو تجسيمية أو إشارية ، أو حاضنة للرسوم الصورية أو التخطيطية وكل ذلك لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال العمليات الإدراكية العقلية القائمة على التأويل ، وذلك يحتاج إلى متلق واع يقرأ النص قراءة إنتاجية خاضعة للمورثات الثقافية بشتى مجالاتها وتنوع أصولها سواء أكانت الأسطورية أم الشعبية أم الدينية أم السلوكية ، مستفيدا من تجليات العلوم الإنسانية في تفسير وتأويل الأيقونة ، كعلم النفس والاجتماع والفلسفة ، والفنون والآداب ، وكذلك العلوم الصرفة ،كالرياضيات والمناهج النقدية ، لا سيما مناهج ما بعد الحداثة ؛ فتصبح الأيقونة ذات دلالة يمكن تفسيرها وتأويلها بحسب الموروثات والعلوم المختلفة ، وماانتجته الثورة الصناعية ، وما توصلت إليه الدراسات اللسانية الحديثة بمختلف اتجاهاتها ومدارسها .
فالأيقونة صورة لغوية ذهنية معبرة ، قوامها التأويل القائم على التواصل ما بين اللفظة أو الصورة وما تضمره من دلالات مكتنزة فيها ، فتمثل الأيقونة الدال ( اللفظة / الصورة) والمعنى المتفجر من ثنايا الدال في مخيلة المتلقي من تصور ذهني أو صوري يسمى المدلول ؛ أي الموضوع الذي ينقدح في ذهن المتلقي الواعي على شكل ومضة بوساطة نسيج العلاقات المتشكلة عبر الثقافات المختلفة في النص المضمر المتولد من نص الأيقونة .
وعدَ بيرس الأيقونة بأنها تأتي ( لفحص مستويات سيميائية غير لغوية أو خارج لغوية ) 1، فالعلاقة عنده تمثيل كالرسوم والصورة القائمة على علاقة المماثلة والمشابهة ، وتكون ذات دلالة واسعة تحيل إلى العلاقة الصورية عبر وسيط المماثلة والتشابه الذي يؤدي إلى توصيل معرفي .
فالأيقونة ذات نسق من العلامات المعبرة عن أفكار وسلوكيات اجتماعية أو ثقافية ، فهي بمثابة الإشارات المعبرة عن الأفكار التي تنفتح عنها أو ما تشير إليها . وتعد نسقا من الإنسان الكاشفة عن طبيعة الشيء سواء أكان فردا أم مجتمعا أو غير ذلك . فهي آلية من آليات التواصل المعرفي التي تمثل علاقة لسانية أو غير لسانية . فهي نص مكتنز داخل علامة تدعى الأيقونة يوجد بينهما ترابط على مستوى الذاكرة وتربطه عُرى من القواسم المشتركة يتم من خلالها تكوين فضاء نصي تحكمه علاقات متنوعة ومتعددة راكزة في الذاكرة الثقافية المجتمعية وكاشفة عن طبيعة سلوكياته ، ويتم ذلك بوساطة ما تحويه الأيقونة من طبيعة توليدية للصور والمعاني تستحضرها ذاكرة المتلقي الفرعية التي كانت تحكم طبيعة العلاقة أو التفكير لدى الأفراد أو المجتمعات ؛ من خلال قواعد أو أعراف أو تراكيب سائدة وراسخة لديهم ؛ فتصبح أنساقا تؤول بحسب نسق آخر ، أي بمعنى أخر ، أن نسقا ما يصبح أداة لتأويل الأنساق الأخرى ، فالأيقونة تصبح ( أداتنا في فهم الدلالات والإيماءات وشروح معاني الصورة واللوحة والرقص ….)٢ . وهي التي بينها وبين ما تدل عليه محاكاة ، أي هي تحاكي ما تشير إليه . وقد تكون هذه المحاكاة عالية في الصور المرئية ( التلفزيونية ) . أو منخفضة كما في اللوحات السريالية ، والأحلام ، وبعض مفردات اللغة التي تحاكي معانيها كأسماء الأصوات .
ومن وظائف الأيقونة أنها ذات وظيفة اختلافية ؛ فهي لاتملك معنى وإنما تملك استعمالا ، والاستعمال هو صيغة أخرى للقول ؛ لأن المعنى موجود في الاستعمال ، وبدوره يحيل على نسق ؛ والنسق كيان غير مرئي ولكنه البؤرة التي يتم عبرها التدليل والتواصل . فالأيقونة من أهم وظائفها أنها تربط بين صورة سمعية أو بصرية بتصور ذهني عن طريق الإدراك ، وبذلك تكون هي الدال للأداة الحاملة والمدلول للمضمون التي تستند إلى قاعدة عرفية تحولها من وضعها الأصلي الهامشي إلى نصوص تنتج ضمن أنساق ثقافية بعينها ؛ وتمارس تأثيرها على السلوك الإنساني وتوجهه . وعادة ما تنسى هذه العلامات مع كثرة استعمالها وضعها الأصلي أو الهامشي لكي تصبح علامة / أيقونة طبيعية منتجة لمعانيها بشكل طبيعي ، فالأيقونة ( تبدو في المعتاد طبيعية لدى أولئك الذين يستخدمونها أفرادا أو مجتمعات ميالون إلى تأكيد أن سلوكهم الخاص ؛ إنما تحكمه اعتبارات عملية أكثر منها رمزية ، كما أنهم يؤكدون أنه يختارون السلوكيات والأعراف والملابس والصور التي يرون انها معبرة بصورة طبيعية ) ٣.وبقدر ما تكون هذه السلوكيات قوية يكون نجاحها في التعامل بعلاماتها بوصفه علامة طبيعية بسبب العرف أو الثقافة التي تتحول إلى عنصر طبيعي بعدما تغادر أصلها .
ومن نافلة القول ، أن الأيقونة تنماز بوظيفة الإيحاء والتأثير، وتجلت هذه الوظيفة في الخطاب القرآني لما يملكه من خصوصية تميز بها عن غيره من النصوص النثرية الأخرى ، بمختلف أجناسها الأدبية بتوظيفه للأيقونة لأنها تمتلك سمات اكتناز الإيحاء والتأثير في المتلقي وبدلالات مختلفة ومغايرة للأجناس الأدبية بصورة أوسع وأعمق وأكثر غرابة ومخالفة للمألوف الشائع في تفكير البشرية .
وتعمل الأيقونة على تحديد هوية النسق اللوني وتبين دلالاته المتنوعة والمختلفة وبوساطتها ؛ يمكن للمتلقي أن يختزل من إلتباسات النسق الذي يشتغل عليه . وبما أن الأيقونة لها وظيفة الإيحاء والتأثير ، فإن الخطاب القرآني له خصوصية تميزه عن باقي الأجناس الأدبية في توظيف واستثمار الأيقونة لما فيه من قدرة على قبول الإيحاء والمرونة و قدرته على التأثير في المتلقي بصورة أوسع وأعمق و أكثر غرابة ومفارقة .
وتعد الإيقونة آلية من آليات التواصل الهامة بين المتلقي والنص الإبداعي القائمة على تقنية التواصل السمعي والبصري والثقافة الراكزة بينهما وما يحمله المتلقي من إرث معرفي ،فإذا ما استطاع أفق القارئ أن يتغلب ويتفوق بقراءة وتأويل صمت الإيقونة البصرية التي جذبت اهتمام المتلقي ؛ ونجحت بوساطة التواصل البصري في كسب ثقته وتواصله ورهافة حسه وعاطفته تجاه الخطاب القرآني التي تتحول بدورها إلى إشارات أيقونة تتجسد بأصوات حية تتكلم بصمت .
ومنهم من يرى أن الأيقونة اقتصرت على كونها مجسمات مادية محسوسة تتمثل ب ( صورة ، ورسوم ، ولوحات ، وزخارف ) ٤ . يستعين النص بها لتجميلها ، ويزيد من دقته وتفسر للمتلقي بعض الملابسات والأمور الغامضة ، أيضا تفصح وتبين عما في داخلها ، فإنه يتحدث عن الإيقونة المجسدة فقط ، ولعله كان يختصها بالإيقونة الدينية المسيحية المعبرة للسيد المسيح وأمه عليهما السلام ؛ وإنما مفهوم الإيقونة لايقتصر على ما يراه فقط ، وإنما توسع مفهومها واشتغالاتها لتشمل الألفاظ أو السلوكيات ، لتكشف عن نصوص داخلها ، وتحولت هذه الألفاظ إلى صور أيقونية ومنها اللون ، وهذا ما سوف نتعرض له في قراءتنا للون ومساحة اشتغاله بوصفه نسقا نصيا في الخطاب القرآني .
ومن وظائف الأيقونة كذلك ( أنها تساعد القارئ في تفهم معرفة ما عندها من إشارات مرسلة ، ومن جهة ثانية تسبر بعض ما في طيات هذا الكلام وتحجبه وتخصيصه حتى تسمح بقراءة مفسرة للكلام المفصح عنه ) ٥. ويتضح من خلال تعدد وظائف الأيقونة وسعة اشتغالاتها أنها لم تعد مجسمات فقط ، كما في أول ظهورها واستعمالاتها واقتصارها دينيا ، بل أنها أصبحت ذات مفهوم أوسع لتشمل البصرية والفكرية والفضية والمكانية مستندة بذلك على ( توجيه القراءة ، وتوضيح المعنى ، فالبحث في الأيقونة يكون بحث في المعنى ) ٦ .
ومن اللافت للنظر أن علاقة المماثلة تبدو رابطة طبيعية بين المعنى المتخيل والأيقونة ؛ وتكون الرسالة الأيقونية أكثر حقيقة في إبلاغ التجارب وهذا لايحتاج إلى صعوبة لوجود المماثلة بين شيئين واقعين ، وهذا يتضح في الأعمال المتخيلة في الفنون المسرحية أو الرسم أو السينما ، فالمتلقي يستقبل تأثير ما يعرض أمامه ، لأن المماثلات الجزئية الحاصلة المعروضة أمامه تجعله يقبل إمكان مشابهة ما يعرفه بما لا يعرفه فينكشف له(٧). وقد لا تكون الأيقونة قائمة على علاقة المماثلة أحيانا ، وإنما يأتي دور المتلقي الواعي وعلى وفق القراءة الإنتاجية ليكتشف الأيقونة المتخيلة وليست الحقيقية القائمة على مطابقة الشيء وصورته من خلال إقناع المتلقي بإمكان المعنى المتولد في الأيقونة المتخيلة يطابق المعنى الحقيقي وصورته .
فالأيقونة بوصفها علامة تامة غير مرهونة بالمشابهة فقط ؛ بل إنها ذات خصائص أو دلالات رمزية أخرى ، وقد يكون الدال الأيقوني والدال البصري من مادة واحدة ولكن مدلولها يختلف نتيجة اختلاف شكلهما ، وعلى هذا الأساس ينبني تصور المتلقي وإدراكه . مما ينتج إرجاع الدال إلى المدلول نقطة تحول في صميم عملية التلقي التي تنطلق حركتها من إعادة تصنيف الفنون المتداخلة في مجموعات مفهومية جديدة .
ونخلص إلى أن الأيقونة نافذة أو علامة لغوية أو صورية تتصدر النص بأشكاله المتعددة والمتنوعة على وفق الجنس الذي ينتمي إليه ؛ وتعطي للنص هويته الخاصة به وتمنحه دلالة تميزه عن غيره من النصوص ، والتي تختصر النص برمته من خلال نسق لفظي أو صوري قادر على اكتناز معان وثقافات وأنساق مختلفة ، وقد تكون متضادة من نص إلى أخر أو تمنحه دلالات متعددة وكثيرة بحسب السياق الذي تتولد فيه . وهي بمثابة مفتاح للولوج إلى شبكة من النصوص المضمرة مطمورة في طبقات النص .
ختاما يمكن القول أن توظيف الأيقونة اللونية في نسيج الخطاب القرآني اتسمت بحمولات واشتغالات دلالية تعددت أبعادها ، وعبرت عن سلوكيات مستعمليها وانعكاساتها النفسية عليهم ، وأسباب ورودها اجتماعيا لطبيعة الحياة وظروفها في ذلك العصر ؛ وهذه الدلالات جاء تنوعها بحسب سياقها النصي الذي انتظمت فيه ، منفتحة عن آفاق واسعة بسعة القرآن وبلاغته وقدرته الإعجازية في فتح آفاق المتلقي ، وإيجاز صورة كاملة معبرة ووافية تعجز الألفاظ في تصويرها وعبرت عنها بدقة واضحة ؛ إنَ الأيقونة اللونية نافذة أو علامة لغوية أو بصرية تُدرك من المتلقي عبر شبكة من العلاقات ، وتعطي النص هويته الخاصة به وتمنحه دلالة تميزه عن غيره من النصوص عبر نسق لفظي أو صوري يعبر عن طبيعة الحياة والظروف البيئية التي يعيشها المتلقي . وبهذا تعد الأيقونة نسقا قرآنيا قادرا على اكتناز معان وثقافات وأنساق مختلفة ، وقد تكون متضادة من لون إلى أخر ، وذات تأثير إيحائي بنوعيه الإيجابي والسلبي بحسب السياق الذي تنتظم فيه