الزاهرة هي احدى المدن الاسلامية التي اُسست بالأندلس في عصر الخلافة الاموية، ولاجل تسهيل الخوض فيها ودبج مقالة منسقة ومفهومة سيكون الكلام حسب الاتي:
اولاً/ موقع المدينة:
ذكر الحميري(1) موقع المدينة فقال: (مدينة متصلة بقرطبة من البلاد الأندلسية، بناها المنصور بن أبي عامر… فنظر فيها وقاس على مجالها البقعة المدعوة بألَش، وهي بغربي مدينة الزهراء) اي أن المنصور كان قد اختار الجانب الشرقي من نهر قرطبة على الوادي الكبير، وبذلك يتضح الدقة في اختيار الموقع بعناية حتى يبني له عاصمة في قِبال العاصمة التي بناها الخليفة الناصر لدين الله الاموي(300-350هـ) وهي اشارات كثيرة سنقف عليها في اسباب بناء المدينة.
ثانياً/ اسباب تأسيس المدينة:
يبدو أن هنالك سبباً وجيهاً للمنصور بن ابي عامر لكي يبني مدينة الزاهرة، وربما في مقدمة تلك الاسباب هو السبب السياسي، ولعل ما نقله ابن عذاري(2) كشف لنا الصورة التي كانت عليها الدولة في ايام الحكم المركزي والقوي للمنصور بن ابي عامر(367-392هـ) اذ قال: (أمر المنصور بن ابي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة، وذلك عندما استفحل امره، واتّقد جمره، وظهر استبداده، وكَثُر حُسّاده).
ويتضح من النص اعلاه أن المنصور كان قد استغل سطوته السياسية الكبيرة، اذ كان الرجل الاول في الاندلس؛ وذلك بسبب صغر سن الخليفة هشام المؤيد(366-403هـ)، وضعفه فوجد الرجل أن الفرصة سانحة فأختار الموقع وامر بالبناء، مستخدماً لهذا الغرض الفعلة والعمال من كل الفنون والتخصصات، لتكون مدينته بهية وجميلة، وكبيرة اذ اتصلت ارباضها بأرباض قرطبة العاصمة القديمة.
ولم يكن السبب السياسي هو الوحيد الذي حدى بالمنصور الى بناء الزاهرة، اذ ادى العامل الامني دوراً مهماً في الدفع في هذا الاتجاه، اذ وقف عليه ابن عذاري(3) كذلك فقال: ( وخاف على نفسه في الدخول الى قصر السلطان… فتوثق لنفسه، وكشف له ما سُتِر عنه في امسه، من الاعتزاز عليه، ورفع الاستناد اليه).
ومن هذا النص المذكوراعلاه يفهم امر غاية في الاهمية – إن صَدُق- وهو ان الخلافة مغلوب عليها، يضاف لذلك حدة الصراع على السلطة، واحتمالية استهداف حياة المنصور نفسه؛ لأنه اساء كثيراً في هذه المدة، فلأجل السلطة خلق له اعداء كُثر فتخلص بالقوة والارهاب من خصومه لتخلي له الساحة، ويكون القائد الاوحد؛ مما جعله يتوجس خيفه من البقاء في القصر؛ لذا وجد من الافضل اختيار مكان يكون اكثر اماناً له، ويحيط به مريديه وحاشيته.
اضف لذلك سبباً تقليدياً ونفسياً في نفس الوقت وهو أن هناك سُنّة عند الحكام العرب والمسلمين، فهم عندما يصلون على سدة الحكم، يفكرون بعاصمة جديدة لهم، تكون محل للمضاهاة مع منجز الحاكم الذي سبقه، وعكس لقوة الدولة وهيبتها من وجهة نظرهم. ولسان حاله – عندما بنى المدينة في قِبال الزهراء التي بناها الناصر لدين الله الاموي- لسنا اقل منكم شأناً، وهذا ما فهمته من نص ابن عذاري(4) الذي قال : (وسما الى ما سمت اليه الملوك من اختراع قصر ينزل في، ويحله باهله وذويه، ويضم اليه رياسته، ويتم تدبيره وسياسته، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة بالقصور بالباهرة، واقامتها بطرف البلد على نهر قرطبة الاعظم، ونسق فيها كل اقتدار معُجز ونظم).
وهناك نصاً اخراً يثبت ما نحن بصدده اذ قال ابن عذاري(5) عن السبب النفسي في بناء وتأسيس العاصمة الجديدة الزاهرة فقال:( أراد أن يجري في ذلك على نسق المتغلبين على سلطان بني العباس في الشرق، من امراء الديلم، فبدأ يسلك الدولة على قالبه وطبعها بطابعه).
والذي يدقق النص سيفهم مقدار توق الرجل لبناء مدينة تخلد اسمه وترضي نفسه، والا فما معنى الزاهرة أليس من الجمال والبهاء؟، فهو قد بنى سوقاً داخلها؛ مما سبب خلّو مدينة الزهراء، في قِبَال زيادة مضطردة في النشاط التجاري في مدينة الزاهرة، والتي كانت زاهرة فعلاً فقيل انها كانت مخططة بشكل جميل ومبنية بطرز راقية حيث القصور الفارهة، وكل ما تأنس النفس به، ولعل دليل آخر هو ما اورده ابن عذاري(6) نفسه رؤيا للمنصور نفسه اذ انزعج عندما حلم بخراب مدينته الجميلة، وطمس معالمها بعد مدة قريبة، فكان يغضب لمجرد التفكير بالأمر ويمتنع عن الطعام لأيام عديدة، وبذلك نفهم أنها تعني له الكثير، وربما ابعد من السياسة نفسها، اذ عدّها منجز شخصي له في مقابل منجز غيره.
ولعل ما يؤكد الرغبة النفسية الجامحة للمنصور في البروز حاكماً اوحداً للأندلس هو انه وضع العائلة الاموية المالكة قيد الاقامة الجبرية داخل القصر الخلافي، واحاطهم بسور عالي، ووضع عليهم الحرس؛ للإشراف على كل داخل وخارج القصر، ومنع العائلة المالكة من اللقاء بأي شخص او وفد دون علمه هو موافقته، او موافقة نائبه الذي عينه في القصر ليكون عيناً له هناك، الامر الذي رتب خمول ذكر الخليفة وتلاشي هيبته في نظر العامة(7).
والواضح أن هذا الفعل كان بمثابة انقلاباً غير معلن، اذ لم يبقى للخليفة الاموي سوى السكة والدعاء في الخطبة، فليس له من الامر شيء. وامعاناً في اظهار قوة العاصمة الجديدة واضعاف هيبة العاصمة الزهراء، ومن خلفها الخلافة الاموية فقد رسله الى العدوة المغربية، وباقي انحاء الاندلس بان يرسلوا الاموال، والكتب الرسمية والخطابات الى الزاهرة، لا الزهراء. في اشارة سياسية واضحة على محق مكانة وسيادة العاصمة الاموية لصالح عاصمته الزاهرة، ومحق الدولة الاموية لصالح الدولة العامرية(8).