المدينة الهلنستية الشرقية (مفهومها وخصائصها)
ا.د حسن حمزة جواد
جامعة كربلاء-كلية التربية للعلوم الإنسانية -قسم التاريخ
شهد التخطيط العمراني وبناء المدن وتنظيمها في العصر الهلنستي تقدما كبيرا، ويكون اختيار المدن بالقرب من الأنهار ومصباتها، أو في السهول والواحات، التي تخترقها طرق التجارة، وبعضها أسس لأغراض عسكرية دفاعية، في مناطق تستوجب قيامها للحفاظ على الأمن والاستقرار، أو عند المرتفعات المتحكمة بطرق التجارة البرية والبحرية.
اقيم في هذا العصر الحفلات الكبرى لافتتاح المدن، وممكن ان يحضرها الملك وعدد كبير من الناس، وكذلك الكهنة وكبار رجال الجيش، مع تقديم الأضاحي، مثلما حصل في يوم تدشين العاصمة انطاكية، بحضور مؤسسها الملك سلوقس الأول، وهناك من ذكر ان العصر الهلنستي قد شهد تقليداً جديداً من الملوك الهلنستيين في الشرق، متمثلا بالحرص على ان تقوم كل مدينة بالاحتفال بتأريخ وضع الحجر الاساس فيها، واقامة الأعياد والاحتفالات السنوية بذكرى تأسيسها، مع الربط بين قداسة البناء الذي أسسه الملك وعبادته فيها.
اعتمدت المدينة الهلنستية في بلاد الرافدين وبلاد النيل وسورية القديمة على (التخطيط الهيبوديمي)، الذي ابتكره المهندس الشهير هيبوداموس (Hippodamos)، والمسمى بالتخطيط الشبكي أيضاً، وشبه بلوحة لعبة الشطرنج، لتقاطع طرقها رأسيا مع طرق أخرى متقاطعة افقياً، ان مخطط المدينة الهلنستية الشرقية اعتمد بالأساس على المستطيلات المتناسقة، التي تحدها الطرق المتعامدة.
ولم تختلف المدينة الهلنستية عن المدينة الرافدينية القديمة في احتوائها على سور، الغرض منه حماية المدينة من هجمات الاعداء، وتحصن الحاكم داخل قلعة، اتخذت لإدارة شؤون المدينة، والسيطرة على الطرق المجاورة، وصفت اسوارها بمناعتها لكي تتمكن من صد ومقاومة الات الحصار الجديدة، ومحيطها بالغالب يمتد إلى مسافات بعيدة، الغرض من ذلك هو توفير مساحة زراعية كافية داخل الأسوار للإفادة منها وقت الحصار لقوت السكان.
ومثلت القلعة التي احتوت على الحامية العسكرية قلب المدينة، ووظفت الهندسة المعمارية في ذلك العصر لخدمة الفكر الثقافي السائد، فوضع المهندس بدقة عالية موقع كل مرفق من مرافق الحياة الخدمية، الترفيهية أو التعليمية داخل المدينة، مثل: المعبد، القصر، السوق، المسرح، المكتبة أو الجمنازيوم.
اما طرق المدن الهلنستية فكانت متوازية ومتقاطعة فيما بينها بزاوية قائمة، وعند التقاء الطرق الرئيسة في المدينة تقام اقواس النصر ذات البوابات الثلاثة (Triapyloi)، وعلى جانبي الطرق وضعت الاروقة المسقوفة، ومثلت الاكورا (Agora) قلب النشاط الاجتماعي والتجاري والثقافي للمدينة، وحوله كانت تقام القصور والمعابد، التي حظيت بأهتمام الملوك السلوقين، أما المسرح فكان في هذا الوقت ينال مكانه مهمة وضرورية في كل مدينة، فهو مركز للتسلية والتثقيف مع انه اداة للدعاية السياسية، وظهرت ملاعب الرياضة وسباق الخيل والعربات بدور كبير أيضاً، ولاسيما بعد اقامة الاحتفالات والمسابقات الدورية والمهرجانات الاستعراضية.
وعرف عن السلوقيين اهتمامهم بإيصال المياه إلى مدنهم الجديدة، وضرورة تجميلها بالأشجار، وهي من التقاليد الشرقية القديمة السائدة في المدن القديمة، للإفادة من جمالها وظلها، وبسبب ذلك يُعتقد ان وجود الأشجار وأهميتها في هذا العصر ادى إلى نشر الاروقة على جانبي الطريق، ليكون ظلها كظل الأشجار، وفي سورية القديمة، وعلى سبيل المثال نجد ان فن بناء المدن الهلنستية قد اخذ بالحسبان تحقيق اهداف دفاعية وجمالية وصحية، إذْ أدت شبكة الطرق المنتظمة، والمسارح والنافورات الجمالية والخدمية، التي توفر الماء بتحسين المستوى الصحي العام للسكان. وكانت الضخامة هي السمة الجمالية الرئيسة للمدينة الهلنستية، وهي من صنع الحاكم، وهي ليست بالأمر الجديد على الشرق، فمن قبلهم كان فراعنة مصر القديمة والملوك الآشوريين والملوك الاخمينين قد نهجوا هذا النهج في تأسيس المدن، وهو بحد ذاته تخفيف من حدة استياء وتذمر السكان المحليين نحو هؤلاء الحكام، إذْ عمل على تشغيل الكثير من اصحاب الحرف في بناء مدنهم الجديدة.
ومن المؤسسات اليونانية المزدهرة في المدن الهلنستية الجمنازيوم (Gymnasium)، المختص في العديد من الجوانب منها التربية الرياضية، والثقافية والتعليمية، التي شهدت تدفق العديد من السكان ومنهم اليونانيين، وغيرهم من المحليين الهلنستيين.
اما عن تخطيط المدن الهلنستية فقد ذكر (قادوس) ان تخطيطها ولاسيما الشرقية فاق حتى تخطيط المدن اليونانية نفسها، وانه عمل أشترك فيه السلوقيين والسكان المحليين، بثقافاتهم المتراكمة عبر العصور، وان ما احتوته مدنهم من تكوين جغرافي وطبيعي أسهم بشكل كبير على جعل المدن الهلنستية والرومانية آية من الأبداع الحضاري، التي لا يزال بعضها شاهدا إلى يومنا هذا.
ان ما وصلت إليه المدن الهلنستية من عظمة واضحة في كبر المباني العامة وكثرة أعدادها ما هو إلاَّ بسبب وفرة الموارد الاقتصادية، لتلك الممالك أو الامبراطوريات الهلنستية، التي كانت أكثر تنظيما لوارداتها الاقتصادية وأكثر سعة في حدودها، وبذلك صارت المدينة الهلنستية مكاناً لعرض قوة السلطة السياسية الحاكمة، تجاه رعاياها، وفي الوقت نفسه للترفيه عنهم، وهذا ما لمسناه من كثرة انشاء المدن في هذا العصر، وتنافس ملوكها من أجل ذلك.
مما ورد يمكن القول ان المدينة الشرقية التي تم انشأوها في العصر الهلنستي قد شهدت أهتماماً كبيراً وملحوظاً من الحكام والملوك الهلنستيين، ولاسيما السلوقين، لوفرة الأموال اللازمة التي تدفقت نحو خزينة المملكة، فوظفت كنوع من الدعاية لهذه السلالات الأجنبية الحاكمة، ولترفيه رعاياهم اليونانيين مع المحليين أيضاً، واحتوت المدينة الشرقية في هذا العصر على مؤسسات ترفيهية وخدمية جديدة، لم تكن قد شهدتها بشكل واسع من قبل، علما ان هذا الشي لا ينطبق بصورة عامة على المدن الشرقية كافة، والتي لم تعرف بعد المؤسسات الجديدة (مثل المسرح والجمنازيوم) بشكلها اليوناني في الشرق .
وتميزت بطرقها الواسعة والمتعامدة، إذْ استعمل في تخطيطها التصميم الهيبوديمي(الشبكي)، مع وجود الأسوار لحمايتها والساحات العامة (الاكورا)، واستنادا إلى ما مر بنا سابقا فإن هناك الكثير من هذه الصفات أو الخصائص كانت موجودة في الاساس بالمدن الشرقية، ولاسيما مدن العراق القديم من اسوار ومياه وتخطيط متعامد للطرق، مثل طرق المدينة الآشورية (دور-شروكين)، فيكون قد راعى القائمين على أنشائها تحقيق الجوانب الصحية والجمالية والدفاعية.
وبذلك تكون المدينة الهلنستية في بلاد الرافدين قد جمعت بين التقليد السائد في انشاء المدن بالعصور السابقة للعصر الهلنستي، وبين التجديد الذي ادخله السلوقيين فيما بعد، والمتمثل بإضافة المؤسسات الجديدة، مثل المسرح والجمنازيوم وغيرها إلى المدن الجديدة، وأحياناً حتى القديمة منها مثل مدينة بابل، التي شهدت أنشاء مسرح يوناني فيها.
للمزيد انظر:
حسن حمزة جواد، مدينة سلوقية دجلة دراسة تاريخية حضارية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد-كلية الآداب-قسم التاريخ، 2019م.