المدينة اليونانية (مفهومها وخصائصها)
ا.د حسن حمزة جواد
جامعة كربلاء-كلية التربية للعلوم الإنسانية -قسم التاريخ
بدأت المدينة اليونانية تأخذ شكلها عند نهاية القرن السادس قبل الميلاد، إلاَّ أنها لا تزال ريفية وغير ناضجة، وفي القرن الرابع قبل الميلاد زادت على ذلك قليلا من حيث المباني وتوسيع الطرق، ذكر ان عشاق الحضارة اليونانية اضفوا على المدينة اليونانية صفات تتسم بالنقاء والصفاء والروعة، وهي من الممكن أن تنطبق على المنطق والرياضيات، فهي ليست من سمات المدينة اليونانية القديمة، ولا حتى من سمات الاحياء المقدسة فيها، بل هي من سمات القرن الثالث قبل الميلاد وابتكاراته، الذي تطورت فيه المدينة واختلفت عن سابقاتها.
لم تعرف اليونان تخطيط المدن حتى نهاية العصر الهيليني أو الكلاسيكي (480-323 ق.م) والوضع السائد كان النمو العشوائي، استنادا إلى متطلبات الامور، ولم تتخذ المدن شكلا هندسيا منتظما بأسوارها الحصينة، ووصفت طرقها بأنها بعيدة عن الاستقامة والتنظيم الدقيق، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة، لمدن عَرفت التخطيط الهندسي المنتظم من القرن الخامس قبل ميلاد، مثل مدينة اولينثوس(Olynthos)  ومدن أخرى من المستوطنات اليونانية في اسيا الصغرى، ويرجح ان غياب التخطيط عائد إلى ان هذه المدن كانت في الأصل مقراً للقبائل والتجمعات السكانية، المستقرة فيها بصورة عشوائية، من دون تنسيق مع من يجاورها، فضلا عن وعورة تضاريس بلاد اليونان، وكثرة الصخور المتعرجة فيها، جميعها جعلت من الصعوبة أيجاد طرق مستقيمة مستوية.
 وهناك من يجعل انعدام النظام والتخطيط في طرق المدن وسيلة مهمة من وسائل الدفاع عن المدينة، عند اختراق سورها الخارجي، ولم تعرف بعد المدينة اليونانية رصف الطرق، للتخلص من الوحل أو الأتربة، ولم يحتو وسطها على الحدائق والبساتين الداخلية، بل كان هناك بدايات ظهور الاروقة العامة للتنزه، مع تدني أو انعدام مستوى الخدمات أو الوسائل الصحية في المدن الكبرى.
ومن اكثر المدن شهرةً مدينة أثينا، التي قسمت على ثلاثة اقسام: أهمها كان الأكروبولس(Acropolis)، واحياناً يسمى البولس(polis)، وهي القلعة أو المدينة الأصلية، والأقسام الأخرى هي الميناء والمدينة العليا، والأكروبولس ما هو إلا احد التلال الصغيرة، المشيدة عليه قلعه أثينا، فوق صخوره الصلبة، المشرفة على السهل من أرتفاع يصل إلى(١٠٠م)، من الممكن ان تكون هذه القلعة هي اصل المدينة، التي يمكن ان تحمي وتؤوي السكان وقت الحاجة، حال تعرضهم لخطر ما، إذْ نجد لكل مدينة يونانية اكروبولس، أي الربوة المرتفعة، وتمثل قلب المدينة اليونانية القديمة، على ذلك التل، ومن داخل القلعة نشأ المعبد، الذي يجتمع الناس فيه، وبعد ان تحقق السلام والامن، صار المعبد يتوسط الاكورا (Agora) ، مركز النشاط التجاري والاجتماعي على ربوة عالية أيضاً. 
كانت النظرة اليونانية إلى المدينة (polis) على أنها محدودة في حجمها، لأنه نابع من المثل الأخلاقية اليونانية، لذلك كانت تخضع لحد اقصى من النمو، فاذا تجاوزت ذلك الحد تطلب انشاء مدينة جديدة، وتُعد الاكورا من أهم اجزاء المدينة اليونانية، وتعني بالأصل الجمعية أو مكان الاجتماع، التي تطورت فيما بعد لتصبح سوقا، وكانت تشكل إلى جانب وظيفتها في التعامل التجاري اليومي العصب السياسي للمدينة، إذْ يجتمع فيها المجلس التشريعي.
اما المباني العامة في المدينة اليونانية فإن معظمها كان مستطيل الشكل أو دائري مثل المسارح، التي ذكر أنها تتسع إلى (٣٠ ألف) شخص، أما المباني الخاصة كالمنازل، فكان بنائها يتم بالغالب من مواد بدائية، مثل الخشب واللبن، أما الحجر فقد استعمل في بناء القصور والمباني العامة. ولم تميز منازل الاغنياء عن الفقراء في اثينا، بل كانت جنباً إلى جنب مع بعضها بعض، وهي ذات طابق واحد مع سقوف قليله الارتفاع. ومن المباني العامة الأخرى مبنى الجمنازيوم (Gymnasium) ، احدى المؤسسات الجديدة، التي وجدت مقرا لها في أطراف المدينة اليونانية، لا في وسطها المضطرب، إذْ كان في الاطراف متسع رحب تنتشر فيه الاشجار . 
اما المعابد فكانت تبنى في الغالب على الجزء المرتفع من المدينة، مواجهة إلى جهة الشرق، ليستقبل بابها الشمس، وكان لليوناني أهتمام واضح بعمارة المعابد، التي وصفت بأنها في غاية الروعة والابداع، ومن أشهرها معبد الباريثنيون، الواقع فوق تل الأكروبولس، المشرف على مدينة اثينا والمخصص إلى عبادة الإلهة اثينا.
مما سبق يمكن القول ان المدينة اليونانية في اول أمرها نشأت وتطورت بصورة عشوائية، بعيدة عن التخطيط المنتظم (الشبكي)، الذي عُرف في عدد من مدن بلاد الرافدين، ولاسيما تلك الملكية منها، بسبب عوامل عدة منها صعوبة تضاريسها، ثم ساد هذا النوع من التخطيط في العصر الهلنستي، ومن قبل قد ظهر في اسيا الصغرى في بعض المدن اليونانية، واحتوت الأخيرة مثلها مثل الكثير من المدن الرافدينية القديمة على سور يبعد الخطر عنها وقت الحاجة وميناء رئيس أيضاً، إلاَّ ان مركزها الاساس وقلبها النابض هو الاكورا، فهي مركزها السياسي والاقتصادي، مع وجود الأكروبولس (القلعة) والكثير من المباني العامة، التي تميزت بها مثل المسرح والجمنازيوم.
للمزيد انظر:
حسن حمزة جواد، مدينة سلوقية دجلة دراسة تاريخية حضارية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد-كلية الآداب-قسم التاريخ، 2019م.
 

شارك هذا الموضوع: