المرأة في شعر الأبيوردي
المرأة والتغزل بها اتخذ شكلين بنائيين في النص الشعري لشعر الابيوردي ، وهما غزل المطالع ، وغزل المقطوعات ، كما في الشعر التقليدي المعروف ، لكن من الملاحظ أن أَكثر النصوص الغزلية في المرأة كانت فيها المرأة حاضرة حضوراً نفسياً لا ذاتياً ، فقد كانت جسراً للوصول الى غرض آخر ، إذ لم تكن هي الغرض الاساس ، فقد يرد التغزل فيها مطلعاً في قصيدة مدح ، مثل قول الأبيوردي في مدح بعض الخَلَفيين من بني جمح وهم بالحجاز :
أما وحُبيّك هذا مُنتَهى حلفي
ليظهرنَّ الذي أُحفيه منْ شَغَفي
فبين جنبيّ سرٌّ لا يبُوحُ به
سوىدُموعٍ متى ما تُذكري تكفِ
أستكتمُ القلبَ أسراراً تنُمُّ بها
إلى الوشاةِ شؤون الأدمعِ الذرفِ
وعاذل مجَّ سمعي ما يفوهُ به
وقد جعلتُ أحاديثَ النّوى شنفي
وفي الجوانحِ حُبُّ لا يُغيِّرهُ
صدُّ المُلوكِ وبعد النِّيّةِ القذفِ
وما الحبيبُ وما أعني سواكِ بهِ
مّمن يقلُّ عليه في النّوى أسفي
حتى يدخل الشاعر في غرضٍ آخر وهو التفاخر بقومه وأهله على لسان حبيبته:
تقولُ حتّامَ لا تلوي على وطنٍ
وكم تعذِّبُ جسماً بادي التَّرفِ
وكم تشيمُ بُروقاً غير صادقةٍ
والآلُ ليسَ بما يُروي صداكَ يفي
وأنتَ مَنْ معشرٍ لولا تأخرهُم
جاءتْ بذكرهمِ الأولى من الصّحفِ
شُمُّ العرانين لا تدمى أنوفهُمُ
عند اللَّقاءِ ولا تعرى من الأنفِ
ولا تخبُّ هوادي الخيل إنْ ركبوا
إلى الوغى بمعازيلٍ ولا كُشُفِ
فاستبقِ نفسكَ لا يُود السّفارُ بها
فهي الحشاشةُ مِنْ مجدٍ ومَنْ شرفِ
وعرضُ مثلكَ لا تغتالهُ نُوبٌ
تفترُّ عيشتهُ فيها عن الشِّظفِ
ومن ثم يشرع في المدح الذي هو الغرض الأساس من القصيدة ، إذ قال :
وقد فليتُ الورى حتّى قليتُهُمُ
إلِّا بقايا كرامٍ مِنْ بني خَلَفِ
جادَ الزّمانُ بهم والبُخلُ شيمتهُ
فالفضلُ في خلفٍ منهم وفي سلفِ
وهُم وإنْ حسبوا في أهلهِ ولهم
عُلا رعوا تالداً منها بمُطَّرفِ
كالماءِ والنّار موجودين في حجرٍ
والبدر في سُدفٍ والدُّرِّ في صدفٍ
فالُ صفوان إن تُذكرْ مناقبهُم
يلو الحسُودُ إليها جيد مُعترفِ
وقد أظلَّ أبا أروى ذرا نسبٍ
بُسؤددٍ كجبين الصّبح مُلتحفِ
ذو همّةٍ لنْ تنالَ الشُّهبُ غايتها
علتْ وما احتفلتْ منها بمُرتدفِ
جمُّ التّواضعِ والأقدارُ تخدُمهُ
ولا يُصعِّرُ خدَّيه من الصّلفِ
كالبحرِ لو أمنَ التيارَ راكبُهُ
والبدر لو لم يشنهُ عارضُ الكَلفِ
طلقُ مُحياهُ للعافي وراحتهُ
في الجودِ تُزري على الهطَّالةِ الوطفِ
فكانت المرأة حاضرة حضوراً تقليدياً كمطلع لقصيدة فخر ومدح ، فهي وسيلة للوصول إلى أغراض أخرى ، وربما لم تكن حقيقةً ، وأنما كانت من صنع مخيلة الشاعر .
وحضور المرأة كمقدمة غزلية يهيئ القارئ والسامع للاصغاء إلى ما بعد الغزل؛ لأنه قريب من النفوس ، لائط بالقلوب ، وهو إستدراج لما بعده ، فضلاً عما تحمله هذه البنية من انعكاسات نفسية لها صلة مباشرة بالشاعر وانفعالاته النفسية فحضورها ذريعة للوصول إلى غاية في نفسه أو يستخدمه واجهة للقصد الذي يروم .
وقد تكون حاضرة حضوراً زمانياً ومكانياً يحاول الشاعر فيه أن يبرع في سرد احداث ليلة أو يوم ما بوصفٍ ابداعي لتفاصيل الحدث . كما قال في قصيدة له :
وسربِ عذارى بين غابٍ من القنا
كسربِ ظباءٍ في ظلالٍ من السّدرِ
سَموتُ لها واللَّيلُ رقَّ أديمُهُ
وكادَ يُقصُّ الفجرُ قادمة النّسرِ
ورُمنا عناقاً نهنهتْ عنهُ عفّةٌ
شديدٌ بها عقدُ النِّطاق على الخصرِ
ولم تكُ الا الوشحُ فينا مُذالةً
وان حامَ بي ظنُّ الغيور على الأزرِ
وإنِّي ليُصبيني حديثٌ ونظرةٌ
يُعارضها الواشونَ بالنَّّظر الشََّزرِ
حديثٌ رقيقٌ من سُعاد كأنَّها
تشوبُ لنا ماء الغمامة بالخَمرِ
فما راعنا إلاَّ الصَّباحُ كما بدا
من الغمد حدُّ الهند وإنَّي ذي الأثرِ
ومِنْ عَجَلٍ مالفَّ جيداً وداعُنا
بجيدٍ ولا نحراً أضفنا إلى نحرِ
فعُدتُ أجرُّ الذّيلَ والسّيفَ مُنتضًى
وهُنَّ يبادرن الخيامَ على ذُعر
وقد مُحيتْ آثارها بذيولها
سوى ما أعارته الترابَ مِنَ النّشرِ
في النص مشهد من المشاعر العاطفية الغزلية الذي تحضر فيه المرأة حضوراً قصصياً . ومن الجلي في مثل هذه المشاهد أن الشاعر يطمح الى إظهار المقدرة الشعرية الابداعية في وصف مواقف هيام وعشق ، ولقاء وفراق ، ونشوة وخوف ، وإقبال وتردد ، فـ الشاعر الغزلي يقسم نفسه بين محبوبين هما الحب والفن .
وحين يكون حضور المرأة معادلا موضوعياً لشكوى الشاعر من خذلان دهره ، وعجزه عن الحصول على مبتغاه يخلق مشهداً تمثيلياً يبث فيه شعوره وعجزه ، فقال مثلاً :
رأتني فتاةُ الحيَّ أغبرَ شاحباً
فأذرتْ دمًوعاً كالجُمانِ تُريقُها
ولم تدرِ أنِّي مُستهامٌ برتبةٍ
من المجدِ لم ينهجْ لغيري طريقُها
أرومُ العُلا والعُدمُ عنهُنّ حاجزٌ
فتلكَ لعمري خُطّةٌ لا أطيقُها
هو المنصب ، ذلك الحلم الذي شكّل هاجساً مؤثراً في نفس الشاعر . غياب آخر للهدف المرجو ، مثله بحضورٍ للمرأة ، حضور رمزي تأثيريّ .
وربما أحضرها الشاعر لبيان إقدامه وعزمه وقدرته على ركوب الصعب لنيل المقصود :
وعاذلةٍ هبّتْ وللنَّجم لفتةٌ
إلى الفجر تلحاني ولّمْ تدرِ ما خَطبي
وتزعمُ أنّ المرءَ في طلبِ العُلا
يميلُ بهاديه إلى مركبٍ صعبِ
إذا أنا لم أملكْ على الدهرِ طاعتي
وأصبحتُ مطويَّ الضّلوع على عتبِ
وما استرعنت منْ لبَّةِ القرن صعدتي
ولم يتلمَّظْ بين أوداجه عضبي
فبئس سليلُ الحيّ مَنْ بشَّرتْ به
قوابلهُ حمش الشوى مِنْ بني حربِ
وبهذا شكلت المرأة حضوراً معادلاً لنفسية الشاعر ومكنونات ذاته . فهي حضور يبث الشاعر من خلاله شكواه من غياب ما .
وما تقدم من حضور للمرأة كمعادل موضوعي او أداة توظيف لا يمنع من أن تحضر المرأة حضوراً مستقلاً عن الاغراض الاخرى والأهداف التي يهفو إليها الشاعر ، فيكون حضورها عاطفياً غزلياً بوصفها محبوبة وملهمة ، وتكمن قوة إبداع الشاعر في التعبير عن حضور المرأة حضوراً معنوياً لما ترفده من خيال وصور شعرية في قالب إيحائيٍّ جميل ، كقول الأبيوردي :
نظرتْ ففاجأت النُّفوسَ منونُ
وشكتْ قُلوبٌ ما جنتهُ عُيونُ
وبكيتُ إذ ضحكتْ فأشبه ثغرها
دمعي وكُلُّ لؤلؤٌ مكنونُ
أأميمَ إنْ خفيتْ عليكِ صبابتي
فسلي ظلام اللّيل كيف أكونُ
واستخبري عنّي النُّجوم فقد رأتْ
سهري وأروقة الغياهبِ جُونُ
ولئن أذلتُ مصون دمعي في الهوى
فعلى البُكاء يُعوِّلُ المَحزونُ
حضور ثري بالمشاعر الجياشة ، والحزن الشفيف ، مناجاة مرهفة تملكت فيها المرأة كيان الشاعر ، وحرفه . وهذا الحضور الواسع للمرأة ناتج عن الدور الكبير الذي أدته في حياة الشعراء فألهمت – بغيابها – كبارهم ، وحرمت او ألهمت بحضورها ضمورهم في العطاء الذي كانوا به وعليه من الحرمان .
وخلاصة القول فيما مرّ من حديث عن جدلية الحضور والغياب في شعر الأبيوردي عن المرأة نلاحظ أنهَّ سار في اتجاهاتٍ ثلاثة :
الأول : حضور إيحائي كمقدمة تهيء المتلقي نفسياً لسماع النص ، توحي بجو القصيدة وتومئ لموضوعها ، وتلمع لفكرتها ،
والثاني : هو حضور رمزي يستعمله الشاعر كإنطلاقة للتعبير عن انفعاله النفسي واهدافه وآماله .
اما الاتجاه الثالث : فحضور المرأة فيه حضورٌ ذاتيٌ عاطفي . وعلى أية حال فالمرأة في قصائد الشعراء عالم آخر مسخَّر لإلهامه وإبداعه ، وهي ترجمان لشكواه وهمومه ومتنفس يشكل حضوراً ملهماً ، إن حضرتْ كانت أرضاً خصبة لما يصف ، وإن غابتْ بكاها وأحضرها من واقع يأباه إلى خيالٍ يهواه .