المعنى المعجمي في تفسير الكشّاف 
الأستاذ الدكتور : نجاح فاهم العبيدي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين , والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
أما بعد :
فإنّ من السماتِ اللافتةِ للنظرِ في تفسير الكشاف لجار الله الزمخشري  الوقوف كثيرا عند المعنى المعجمي لكلمات آي القرآن الكريم ؛ إذ كثيرا ما نلاحظ أنّ الزمخشري في كشّافه يجنح إلى تفصيل القول في المعنى المعجمي لكلمات القرآن الكريم , وفي ضوء ذلك يبرّز دقةَ التعبير القرآني بهذا الكلمة دون غيرها من الكلمات المرادفة لها بالمعنى .
وقد لا نجد هذه السمة في كثير من التفاسير القرآنية الأخرى ؛ إذ يمرُّ أغلب المفسرين بالمعنى المعجمي مرور العَجلان ؛فيكتفون بإيضاح المعنى العام لآي القران الكريم , بدون الالتفات إلى المعنى المعجمي لكلمات لقرآن ؛ فيُحرم القارئ من متعة الوصول إلى المعنى الدقيق لكلمات القرآن الكريم , ومن ثَمَّ يُحرم من تلمّس الوجه الإعجازي في مجيء هذه اللفظة دون غيرها في السّياق القرآني .
لذلك يمكن القول : إنّ الكشّاف معجم لغوي لكلمات القرآن فضلا عن كونه تفسيرا لآياته , ومما يستشهد به في هذا المقام وقوف الزمخشري عند معنى لفظة ” تثريب ”  الواردة في قوله تعالى (( لا تثريبَ عليكم اليوم يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحم الراحمين )) “يوسف 92”
إذ قال في معنى” تثريب” (( لا تثريب عليكم : لا تأنيب ولا عتب , وأصل التّثريب من الثرب وهو الشّحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه :إزالة الثّرب , كما أنّ التّجليد والتّقريع إزالة الجلد والقرع ؛ لأنّه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال  والعجف الذي ليس بعده , فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض , ويذهب بماء الوجوه) 
فهنا نجد أنّ الزمخشري قد وجه معنى التّثريب بالتأنيب الذي هو المبالغة في التعنيف والتوبيخ , وتوجيه النص القرآني على وفق هذا المعنى : لا  تأنيب َ عليكم  اليوم الذي هو مظنة التّأنيب والعتب .
وقد التفت جار الله الزمخشري إلى أصل لفظة تثريب التي جاء بها التعبير الإلهي ,فذكر أنّها من الثّرب وهو شحم يغشّي الكرش , ثم ذكر أنّ معنى تثريب : هو إزالة الثّرب في إشارة منه إلى معنى الصيغة الصّرفية التي جاءت عليها لفظة ” تثريب ” فهي على تفعيل الذي من معانيه : السّلب والإزالة .
ويبدو أنّ الجامع بين أصل التّثريب الذي هو إزالة الشّحم والتّأنيب  أنّ كليهما يدلُّ على ذهاب الكمال , وإدخال النقص ؛ فكما أنّ التّثريب يُدخل النّقصَ والضّرر في الجسم ؛بإزالة الشّحم من على الكرش ؛فيسبب العجف والهزال , فكذلك التأنيب يُدخل النّقص والضرر في النفس فيُذهب ماء وجه الإنسان المُؤّنَب , وتهدر كرامته .
وهكذا يظهر أنّ الزمخشري قد أحاط بأهم الجوانب الدّلالية للفظة إحاطةً برّزت للمتلقي دقةَ اختيار اللفظة القرآنية في هذا السّياق دون غيرها من الألفاظ المرادفة لها مثل ” لوم  أو” تقريع ” غير ذلك من الألفاظ .
فكأنّ نبي َ الله يوسفَ –عليه السلام – كان حريصًا  أشدّ الحرص على ألّا يدخلَ على أخوته نقص ولو بمقدار ذلك الجسم الرّقيق من شحم الكرش وأن تصان كرامة أخوته , فلا يُريقُ لهم قطرةً من ماء وجوههم . فتتجلى بذلك أروع صور روح التّسامح والصّفح التي هي صفة الأنبياء والمرسلين , فكظم غيظه  وعفا وصفح , وهو قادرٌ على إيقاع العقوبة بهم . 
 

شارك هذا الموضوع: