المعنى النحوي كان محور الدراسات القديمة وغايتها السامية ، فالنحويون يهتمون بتحليل التراكيب النحوية بدقة متناهية ؛ مراعاة لضروب المعنى المختلفة ، والمقصودة من لدن المتكلم والمراد إيصالها إلى المخاطب . وسأسلط الضوء على جانب من جوانب المعنى في الجملة الاسمية ، من تقديم للخبر وحذف للمبتدأ .
تقديم الخبر :
الأصـــــل فــــي المــــبتدأ الــــتقديم ، وفـــــي الـــخبـــــر الـــتأخير ، لكون الخبر وصفاً في المعنى للمبتدأ ، فأخِّر لذلك كالوصف ، ويجوز أن يتقدّم مع أمن اللبس أو نحوه
وجوَّز النحويون التقديم في قولك : ( منطلقٌ الزيدان ) و ( تـميميٌّ أنا ) و( مشنوءٌ من يشنؤكَ ) ، لأمن اللبس ، إذ المُؤَخَّر في الأمثلة اسم الذات والضمير والاسم الموصول ، وهي أعرف من الخبر .
ولكن قد ينقلب الجواز إلى الوجوب في بعض التراكيب اللغوية في الجملة الإسنادية الاسمية بالنظر إلى مراد المتكلم وما أضمره من معنى يريد بيانه للمخاطب ، ولا يفهم هذا المعنى إلاّ بالتقديم ، منه نحو : ( للهِ درُّكَ ) ، فتقديم الخبر ( للهِ ) على المبتدأ ( درُّكَ ) يفهم منه معنى التعجب ، ولو أُخِّر لكان إخباراً فقط من حيث السياق اللغوي ، فالمتكلم يبني العلاقات النحوية بين العناصر اللغوية في التركيب على ما يقتضيه المعنى والقصد .
وقد يكون التقديم للتخصيص بإزالة الوهم في ذهن المخاطب ، بعد ظنه بأنه قاعد ، فتخبره بقولك : ( قائمٌ زيدٌ ) بنفـي القعـود عنه ، وكـذا قـد يُعـنى مـن التقديـم الفخـر ، بـقولك : (تميميٌّ أنا) ، بتقديم الخبر ( تميميٌّ ) على المبتدأ ( أنا ) ، ومعنى التفاؤل والتشاؤم يفهم من تقديم الخبر كذلك ، نحو : ( ناجحٌ زيدٌ ) و( مقتولٌ إبراهيمُ ) ، فجوهر هذه المسألة مردَّه إلى المعنى الذي يُبيِّنَهُ السياق والمقام ، وعلى أساسه يبنى التركيب اللغوي . وللتقديم أغراض كثيرة أخرى.
وأشار الرضي في شرح الكافية إلى وجوب تقديم الخبر باعتبار المعنى المقصود بقوله: ” وإذا كان تقديم الخبر يفهم منه معنى لا يفهم بتأخيره ، وجب التقديم ، نحو قولك : تميميٌ أنا ، إذا كان المراد التفاخر بتميم ، أو غير ذلك مما يقدَّم له الخبر ” .
حذف المبتدأ:
أما المعنى من جانب الحذف فقد أشار النحويون إلى وجوب حذف المبتدأ إذا كان خبره نعتاً مقطوعاً لمجرَّد المـــدح أو الذم أو الترحُّم ، نحو : ( الحمدُ للهِ الحميدُ ) و ( مررتُ بزيدٍ الخبيثُ ) و ( مررتُ بغلامكَ المسكينُ ) ، فالمبتدأ محذوف وجوباً في الأمثلة ، تقديره : ( هو الحميدُ ، هو الخبيثُ ، هو المسكينُ ) .
ويأتي الرضي فيبيِّن سبب حذف المبتدأ وجوباً في حال كون خبره نعتاً مقطوعاً بقوله : ” اعلم أنه قد يحذف المبتدأ وجوباً ، إذا قطع النعت بالرفع ، كما يجيء في بابه ، نحو : الحمدُ للهِ أهلُ الحمدِ ، أي هو أهلُ الحمدِ . وإنما وجب حذفه ليعلم أنه كان في الأصل صفة فقطع لقصد المدح ، أو الذم ، أو الترحم ، كما يجيء ، فلو ظهر المبتدأ لم يتبيَّن ذلك ” .
وعلل صاحب شرح التسهيل ناظر الجيش سبب حذف المبتدأ المخبر عنه بنعت مقطوع بأنه لو أظهر لذهب قصد الإنشاء بالمدح أو الذم أو الترحم ، إذ هو خبر مستأنف المعنى .
وأرى أن الرضي كان دقيقاً في تحديد علة الحذف بقيد العلم بالأصل المقطوع في كونه صفة مع إرادة معنى المدح أو الذم أو الترحم ، إذ لو أظهر المبتدأ لكان من الممكن إرادة المعاني الثلاثة بقرينة المقام ، مع امتناع بيـان الأصـل ، فكان قيده جامعاً مانعاً . فقيد المعاني غير مفيد في بيان علة الحذف من دون أن نضع في الحسبان الأصل .
وعلى ما تقدم ذكره ظهر أن المعنى في الجملة الاسمية لدى النحويين كان محط اهتمامهم الأول ؛ لأن سوق التراكيب بمختلف أحوالها ما هو إلا دليل على هذا الغاية السامية التي تنافس النحويون في بيانها بكل جهدهم وفطنتهم .