المعنى النَّحويُّ بين القِدماء والمُحدثين
لا يخفى على ذي نظرٍ أنَّ المعنى كان حاضرًا في الدِّراسات اللُّغوية منذ المرحلة الأولى لبدء الـتَّأليف في المستويات كافَّة ، فهو جوهرُ الدِّراسة اللُّغوية ، فالنَّحو ليس قاعدة فحسب ؛ بل هو بحث دقيق في معاني التَّراكيب وأسرار جمالها وقوتها . فاللغة العربية لا تُوصف بأنها مجموعة من القواعد ؛ بل هي لغة حية تعكس تاريخ الشعب العربي وثقافته وتطوره.
1 – المعنى النَّحويّ عند القِدماء  :
 لقد عنى النَّحويون عنايةً فائقةً بالمعنى فكانت الالتفاتة التي ألمح إليها  سيبويه في مطالع “الكتاب” التفاتةً فذةً موجزةً، إذ استعمل فيها قواعد النَّحوِ وقواعد الدَّلالة ِ، وتمثلتْ هذه الالتفاتةُ في إشارةٍ خاطفةٍ عن الاستقامة من الكلام والإشارة إلى الدَّلالة في نصٍّ مختصرٍ ، وهذا النَّص القصير يحمل في طياته بذور نظرية نحوية دلالية ، إذ يربط  فيها ربطا وثيقا بين قواعد النحو الأولية  والدلالة الأولية للمفردات ، وبعبارة أخرى قوانين المعنى النحوي الأولي وتمثله الوظائف النحوية مع قوانين دلالة المفردات الأولية وتمثله الدلالة المعجمية للكلمة ، وفي ضوء ذلك يتواشج في النَّص ما يمكن أن يسمى بـ “المعنى النحوي الدلالي، إذ يتداخل تأثير قواعد النَّحو والدلالة في فهم المعنى الكامل للجملة والنَّص ، وتكشف هذه الالتفاتة عن الترابط الوثيق بين النحو والدلالة وتسليط الضوء على العلاقة المتبادلة بينهما في عملية فهم اللغة وتفسيرها .
وهذا ما صرَّح به  سيبويه في : “باب الاستقامة من الكلام والإحالة” بقوله فمنه مستقيم حسنٌ، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب, فالعلاقة بين النحو والمعنى علاقة وثيقة ؛ لأنّ التراكيب النحوية حينما يُنشئها المتكلم يُريد من خلالها إيصال معنى معين للمتلقي , فقد يكون الكلام مستقيما ومقبولا نحويا ودلاليا كـ ” أتيتُك أمْسِ وسآتيك غداً، وسآتيك أمس” أو قد يكون مقبولا نحويا إلّا أنه غير مقبولٍ دلاليا كـ” حَمَلتُ الجبلَ، وشربت ماء البحر” أو قد يكون غير مقبولٍ تركيبيا كـ” قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك” أو يكون غير مقبولِ من حيث الدلالة والتركيب كـ ” سوف أشرب ماء البحر أمسٍ” .
أي إنّه كان على وعي بالفرق بين المعنى النحويّ والمعاني الأُخر كالمعنى المعجميّ أو الدلاليّ ، إذ تعد العلاقة بين التركيب والمعنى أشدَّ العلاقات تعقيدًا ، ويتدخل النحو في إنتاج الدلالة في حالات كثيرة ، ومن أكثرها أنه يقوم بوظيفة الضوابط التي تنظم عملية الرَّصف ووضع الكلمة إلى جانب الأخرى ، فالكلمة الدالة مثلا على عمل في الماضي لا يسمح النحو بتراصفها مع كلمة أخرى تدل على خلاف ذلك
واهتدى جمهور النحويين إلى المعنى النحويّ أو ما يرادفه، مضمونًا لا مصطلحاً؛ ذلك أنّ إدراكهم إياه لم يكن من التبلور بحيث يسمح لهم بتجسيمه في مصطلح قار , ويبدو أنّ عدم إقرار هذا المصطلح لديهم عائد إلى استعمالهم لفظ “المعنى” من دون تقييده بوصف دال على المعنى النحوي أو الوظيفة النحوية .
ويُبدي ابن جني(ت392ه) رؤيته في المعنى النحوي , فيرى أنّ العرب كانت كما تعنى  بألفاظها فتُصلحها وتُهذِّبها وتراعيها، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخُطب تارة أخرى، وبالأسجاع التي تلزمها وتتكلَّف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدرا في.
وذلك لأنّه لا يمكن إدراك الغرض من اللغة والإفادة من معانيها إلا إذا ارتبطت كلماتها بعضها ببعض، وبهذا الترابط تتكون المعاني والأفكار المقصودة، فالبشر لا يدركون المعنى إلا عن طريق  هذا الارتباط، وهذا الارتباط في التركيب هو المعنى النحوي لا المعنى المعجمي، وهو ما قصده ابن هشام أيضا.
 ويتجه مصطلح المعنى النحوي إلى الاستقرار شيئا فشيئا حتى نصل إلى عبد القاهر الجرجاني “471ه” فنجده يكثر من استعمال مصطلح “معاني النحو” في مؤلفه : دلائل الإعجاز، وجعلها في الفاعلية والمفعولية والإضافة ، و فسّر أنواع المعاني مثل معنى : الحال ، والسبب ، والزمان والمكان , والتعريف والتنكير ، والتقديم والتأخير , والحذف ، والتكرار، والإضمار والإظهار، والوصل والفصل ، والشرط والجزاء والخبر ، ومعاني الحروف ، وبين وجوه التصريف في المعاني النحوية وأصولها وقوانينها.
 أي إنَّ العمود الرئيس الذي بُنيت عليه نظرية النظم هو “معاني النحو” ،  وهذا ما بيَّنه  الجرجاني فهو يرى أن النظم ليس شيئا غير توخي “معاني النحو” وأحكامه فيما بين الكلم.
     وذكر الجرجاني أيضا حقيقة المعنى النحوي أنّها تكمن في ائتلاف عناصر التركيب بعضها ببعض , إذ بيَّن أنَّ هناك ثلاثة عناصر توجب للكلام مزيَّة بعد أنْ يتحقق النظم الذي أشار أنَّه يقوم على أمرين : معاني النحو وهي العلاقات الوظيفية بين الكلمات في الجملة ، والوجوه والفروق التي من شأنها أن تقوم فيه ، وهذه العناصر:
  • الأغراض التي يوضع لها الكلام ، وهي تشمل السياق الملائم للكلام .
2- موقع الكلمات بعضها من بعض ، ولعلّه يقصد به الإفادة من الحرية المتاحة للتقديم والتأخير في بعض الوظائف النحوية .
3- استعمال بعضها مع بعض ، وهو ما يوصف بالاختيار الصحيح بين الحقول الدلالية , أي اختيار التي تتناسب مع كل نصٍّ لتؤدي المعنى المراد إيصاله للمتلقي.
 وبلحاظ ما تقدم يتضح أنَّ المعنى الذي يتجسد في التركيب هو المعنى النحوي ، وهذا جوهر نظرية النظم التي تقوم على مراعاة المعاني النحوية وكيفية ترتيبها في علاقات مخصوصة ؛ لأنه لا وجود لمعان تظهر عن طريق التَّرتيب والنَّظم ، إلا في داخل السِّياق اللغوي ، لذا فإنّ المعاني التي ترتب في داخل السِّياق اللغوي هي المعاني النحوية الوظيفية .
فمعاني النحو إذن : هي معاني متصوّرة في الذهن  يحاول المتكلم إيصالها للمتلقي من خلال نظمه الجملة ، وهذه المعاني تربط بين الكلم، وتحدِّد العلاقات فيما بينها ، ويتم إنجازها في هذه المرحلة من مراحل التفكير عند النظم.
2 – المعنى النَّحويّ عند المحدثين :
ولعلّ الصورة تبدو أكثر وضوحًا إذا تقصيّناها عند المشتغلين بعلوم اللغة من المحدثين في ما سمَّوه المعاني النحويّة , فيرى الدكتور حلمي خليل  أنّ المعنى النحوي هو محصلة العلاقات بين الكلمات في الجملة ، وهو ما تدل عليه الكلمة باعتبارها رموزا للأشياء والأحداث والأفكار.
يلتقي المحدثون في بيانهم عن مفهوم المعنى النحوي وإن اختلفت طرائقهم التعبيرية في ذلك فقد ذهب الدكتور عبد السلام المسدي إلى أنّ المعنى هو ما يتحقق من خلال وظيفة المفرد في الجملة ، فالجملة إطار معنوي مركب واسع يتضمن مفردات ذات وظائف ، وتابعه الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في ذلك فيرى أنه : المعنى المكتسب من الوظيفة في العلاقة التي يشغلها كل عنصر من عناصر الجملة في ارتباطه بغيره من العناصر المؤلفة لمجموعة من العلاقات ، فكلّ عنصرٍ من الجملة سواء أكان اسمًا أم فعلًا أم حرفًا يؤدي وظيفة معينة .
وقد أطلق الدكتور تمّام حسّان على هذا المعنى اسم المعنى الوظيفي ، وقد قصد أنَّ لكل كلمة في السياق وظيفة معينة ، وتأتي وظيفتها هذه من صيغتها ووضعها ، لا من دلالتها على مفهومها اللغوي ، فيقول إنَّ جميع ما نسميه المعاني النحوية هو وظائف للمباني التي يتكون منها المبنى الأكبر السياق.
يفهم من كلام الدكتور تمام حسان أنَّ المعنى على هذا المستوى وظيفته تُمثِّل المبنى التحليلي، وبلحاظ ذلك فقد رَكَز على فكرة التعليق التي استقاها من عبد القاهر الجرجاني , أي إنّه قد أفاد من القدماء في تقديم معنى جديد وهو المعنى الوظيفي
المقامي : وفيه أكمل أستاذنا الأستاذ الدكتور نجاح العبيدي مقولة الدكتور تمّام حسّان إنّ الاعراب فرع المعنى الوظيفي والدلالي ( المعجم+ المقام)  .
وأضاف أنه يمكن الآن أضافة ” أنّ الاعراب فرع المعنى التخاطبي أيضا , لذا صار المقام مؤثّرا على تحديد المعنى الوظيفي “النحوي” , والدليل على ذلك مسألة القطع في النحو العربي أمّا التحذير والإغراء فيدخلان في المعنى التخاطبي.
ولقد فطن النحويون إلى هذا الأمر ، فالنحو عندهم ليس مجرد قاعدة تُطبَّق ، بل بحث في معاني التراكيب وأسرار حُسنها وقوتها، فهو ينطلق من المباني للوصول إلى المعاني ، ولذلك فالنحاة دائما يسألون حول الوظيفة والمعنى والغرض وفاعلية التركيب في التعبير عن المعنى ، وعند دراسة النحاة للجملة العربية يرون أنَّ  كل جملة صحيحة نحوية تُعد جملةً مستقيمة، ولكن الحكم على هذه الاستقامة بالحسنِ والكَذِبِ يتعلق بالمعنى الذي تُفيدُه عناصر الجملة عندما تترابط نحويا ، فالأصل أنْ يوضع الكلام للفائدة فإذا لم تتحقق الفائدة فلا معنى.
 

شارك هذا الموضوع: