المعنى وسلطة القارئ العمدة
م.د كرّار جواد المفرجي
كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية
لا بد لكل دارسٍ نصٍّ، أو ناقدٍ له، أن يتمتع بسلطة معرفية تمكنه من فهم النص، وتحليله بعمق، فإن كان الناقد يحاول نقد نصٍّ معيّن، لا بد أن تتوافر فيه مؤهلات عديدة، منها تمكّنه من علوم اللغة كالنحو، والصرف، والمعجم، فضلا عن إلمامه بعلم الصوتيات، والبلاغة، والدلالة، هذه العلوم تُعد أدوات أساسية تمكن الناقد من ولوج النصوص وقراءتها قراءةً نقديةً فاحصة، يُتَوَقّف فيها عند المعاني التي أُريدت من النص، والدلالات التي يود منشئ النص إيصالها إلى المتلقي.
هذا الكلام ينطبق بشكل خاص على النصوص الأدبية، سواء أ كانت شعرية، أو نثرية، أو قصصية، والتي تنتج من الكُتّاب بمختلف مستوياتهم وتخصصاتهم؛ فالناقد الأدبي يحتاج إلى فهم عميق للغة وأساليبها، فضلا عن القدرة على تحليل البنية النصية واستخراج الدلالات الخفية التي قد لا تكون ظاهرة للقارئ العادي.
أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن النص القرآني، فإن الأمر يختلف جذريًا، فالنص القرآني ليس نصًا أدبيًا عاديًا يمكن لأي ناقد أو دارس أن يمتلك السلطة الكاملة لفهمه وتحليله دون قيود، فمن ذا الذي يستطيع أن يلج النص القرآني، ويكشف معانيه، ويستكشف أغواره في سبيل فهم القصد الإلهي؟ هنا تظهر إشكالية كبيرة، إذ لا يمكن مقارنة النص القرآني بالنصوص الأدبية البشرية، فالنص القرآني هو كلام الله تعالى، وهو نص مقدس يتطلب فهمًا خاصًا وأدوات مختلفة.
فإذا قلنا إن اللغة، وما ينطبق على النصوص الأدبية، ينطبق على النص القرآني، فإن كلامنا سيشوبه عدم الاتزان، إذ لا سلطة لقارئٍ على النص القرآني إلا إذا كانت تلك السلطة مُعطاة من صاحب القرآن نفسه، وهو الله تعالى، وإن من أعطاهم الله تلك السلطة هم المخصوصون بها والمستفيدون منها، وهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الطيبون الطاهرون عليهم السلام، إذ إنهم الوحيدون الذين لهم القدرة على سبر أغوار الآيات والنصوص القرآنية بما أراد الله من قصدية.
فكل من ادّعى أنه تمكّن من فكّ معاني الآيات والوقوف على مقاصد الله، دون الرجوع إلى آل محمد، فإن ذلك الادعاء لا صحة له، وإنما هي تدبّرات توصّل إليها القارئ من مخزونه المعرفي واللغوي، حتى تمكّن من فهم النص بهذه الصورة، وهذا الفهم يبقى محدودًا وقاصرًا عن الوصول إلى القصد الإلهي الحقيقي، إذ لا يمكن لأي شخص أن يفهم النص القرآني بشكل كامل دون الاستناد إلى التفسير الصحيح الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام.
إن من تكون له هذه السلطة على النصوص توقف عنده الناقد الفرنسي “ريفاتير” عندما تحدث عن الأسلوبية البنيوية في الأدب، وأسمى ذلك بـ “القارئ العمدة” للنص، فالقارئ العمدة هو الذي يستطيع أن يوضّح الدلالات ويبيّن المقاصد دون أن يبتعد عمّا أراده الله، بل يبقى في سياق القصد الإلهي، وفي حالة النص القرآني، فإن القارئ العمدة لا يمكن أن يكون إلا النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم وآل بيته الطيبين الطاهرين، فهم الذين أوتوا العلم والحكمة لفهم النص القرآني كما أراد الله.
وعلى هذا الأساس، فإن المعنى المفهوم من النصوص القرآنية عند كل متوقف ومتدبر للقرآن الكريم إنما هو فهمه الشخصي لهذا المعنى، لا القصد الذي أراده الله، وإن من جعل من نفسه قارئًا عمدة للنص القرآني وهو غير معصوم، فلا أظنه سيقف على المقاصد الإلهية، بل لن يقف عليها إلا إذا طرق باب محمد وآل محمد.
في الختام، يمكن القول إن النقد الأدبي يتطلب مهارات ومعارف متعددة، ولكن ذلك غير منطبق على النص القرآني، فهو يتطلب إيمانًا عميقًا، واتباعًا لمن أوتوا العلم من النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم وآل بيته عليهم السلام. ففهم النص القرآني ليس مجرد عملية تحليل لغوي أو بلاغي، بل هو عملية روحية وعقلية تتطلب التواضع أمام عظمة النص والإقرار بحدود الإنسان في فهم كلام الله.

شارك هذا الموضوع: