م.م. علي حميد شاكر عويز
جامعة كربلاء-كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية
دكتوراه/فرع الأدب
(المقالُ: اختبارٌ لقلمِ الباحثِ، وكشفٌ عن خزينهِ اللغويِّ والمعرفيِّ؛ بوصفهِ أكاديميّاً أميناً)
لماذا المقالُ تحديداً؟
قد يسألُ سائلٌ: لماذا المقالُ من دون غيرهِ؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل فعلاً إنَّ المقالَ هو معيارٌ ناجعٌ لقياس جودةِ الباحثِ، ومِكنتهِ، وثرائهِ، وأمانتهِ أيضاً؟
الجوابُ: نعم، وفي هذا المقالِ سنحاولُ تبيانَ حقيقةِ ذلك، والوقوفَ على الأسباب التي دعتنا لاختياره، بوصفه معياراً، من دون غيره من الأشكال الكتابية الأخرى.
تتعدّدُ الأجناسُ الأدبيّةُ وتتنوّعُ بحسبِ أُسسها، ومعاييرها، وأنماطها، وأشكال كتابتها، فهي تندرج جميعاً تحت مظلّتينِ اثنتينِ، هما: الشِعرُ، والنثرُ، أمّا الشِّعرُ فقد كان نظمُهُ على شكلٍ واحدٍ أو طريقةٍ واحدةٍ حتى منتصف القرن الماضي، ألا وهي القصيدةُ العموديّةُ، إذا ما استثنينا من ذلك، فن الموشّح أو بعض الأشكالِ الأخرى كالمسمطات، والمخمّسات، أو غيرها من التي عرفها الشعرُ العربي ، غير أنَّ شُعلةَ الإبداعِ الشعري ظّلت بيد صاحب القصيدة العموديّةِ حتى خمسينيات القرن الماضي، وظهور أشكالٍ جديدةٍ في نظم الشِعر، كشعر التفعيلة أو كما يُطلقُ عليه البعضُ “الشعر الحر” على يد السيّابِ ونازك، ومن ثمَّ قصيدةُ النثر، وبعدها قصيدةُ الشعرِ وهكذا، أمّا النّثرُ، فقد تعددت ضروبُهُ منذ القدم، إذ اشتمل على الخطابة، والوصايا، والحِكم، والأمثال، والرسائل، والقصص، والأحاجي، وغيرها من السرديات التي عرفها الأدبُ العربيُّ القديمُ، وصولاً إلى العصر الحديث وظهور أجناسٍ أدبيّةٍ جديدةٍ تُكتبُ سرداً، كالرواية، والمقالةِ، والقصّةِ القصيرةِ، والقصّةِ القصيرةِ جداً.
لقد وضع النُقّادُ والأدباءُ أسساً ومعاييرَ معيّنةً لكتابةِ كلِّ جنسٍ أو شكلٍ أدبيٍّ من الأشكالِ التي تمّ ذكرُها قبل قليل، فوضعوا للشعرِ حدوداً وشروطاً، وجعوا للنثر معاييرَ يُقاسُ بها، ويُفرَّقُ بين النثرِ الفنّيِّ والنثر العادي عِبرها، منها ما يتعلّقُ بالشكلِ، ومنها ما يتعلّقُ بالمضمونِ، ولكلا الجنسينِ: الشِعرُ والنثرُ كُلٌّ على حدةٍ.
ولمّا كانت الكتابةُ الأدبيةُ خاضعةً لجملةٍ من الشروطِ والاعتبارات، فهي قطعاً لا تتأتّى لأيٍّ كان، غيرَ أّنَّ المقالَ ربّما يختلفُ بعض الشيءِ عن أقرانه من الأشكالِ الكتابيةِ الأخرى، فهو الأقلُ شروطاً وصرامةً من الروايةِ مثلاً، أو القصّةِ، أو القصّةِ القصيرة، التي تحتاج إلى توافر أحداثٍ، وشخصيّاتٍ، وحوارٍ وغيرها من عناصر السرد، أو إلى الوزنِ والقافية كما في نظمِ الشعرِ وكتابته.
إذن فالمقالُ أكثر حريّةً ورحابةً، وأقلّ قيوداً وصعوبةً من غيره على الكاتب، إذ أنَّ كتابتَه يمكنُ عدُّها من قبيل السهلِ الممتنع –إن صحّ التعبير- فهو لا يحتاجُ إلى أوزانٍ أو قوافٍ، أو حوارٍ، أو شخصيّاتِ، بقدر حاجتهِ إلى أفكارٍ مُرتّبةٍ، وألفاظٍ منتقاةٍ، وأسلوبٍ سليمٍ، يستطيعُ الكاتبُ أنْ يوفّقَ فيما بينها، ويصوغها بعباراتٍ صحيحةٍ ومتوخّاةٍ، بعد أن تكتملَ الفكرةُ في ذهنهِ، فيصبّها في قالبٍ لغويٍّ فصيحٍ وسليمٍ، معبّراً عمّا يجولُ بداخلهِ، عندها يُقسّمُ مقَاَلهُ إلى: مُقدّمةٍ تتضمّنُ مدخلاً لما يودُّ الحديث عنه، وعرضٍ يتضمّنُ تشخيصاً للمشكلةِ التي قام برصدها، وأسبابها وحيثيّاتها وتمظهراتها، وخاتمةٍ تتضمنُ وجهةَ نظره في سُبلِ حلّها ومعالجتها، والتوصياتِ التي يرجو أنْ يؤخذَ بها.
بناءً على تقدّم ذكرُهُ فالمقالُ كفيلٌ بكشفِ النقاب عن صاحبه، ليس عن شخصهِ فحسب، وإنما عن مكنونهِ المعرفيِّ، وخزينهِ اللغوي، وقدرتهِ التعبيريّةِ والإملائيّةِ، في انتقاء الألفاظِ، وصوغِ الجملِ السليمةِ، وترتيب العباراتِ المُنمّقةِ، وكما قالوا: بأنَّ الأسلوبَ هو الرّجلُ، إذن فكتابةٌ المقالِ اختبارٌ حقيقيٌّ من جهتينِ اثنينِ، هما: اختبارٌ من قِبلِ الكاتبِ أو الباحثِ لنفسهِ ومقدرتهِ التعبيريّةِ من جهة، واختبارٌ من قِبَلِ الأستاذِ المُشرفِ أو المتلقّي عموماً للكاتبِ من جهةٍ أخرى، وهذا ما قصدنا بقولنا في مستهلِّ المقال، بقدرته، أي: المقال، بالكشفِ عن أمانةِ الباحثِ أو الكاتب.
وعلى الرغم من ذلك كلّه، ما زال البعضُ يواجهُ صعوبةً في ممارسةِ هذا النوعِ من الكتابة، على الرّغم من وصفنا إيّاه بالسهل الممتنع، إذ يجدُ الأمرَ عسيراً عليه لأسبابٍ، ربّما يتعلّقُ بعضُها في مسألة تشخيصِه للموضوعات المُجديةِ للكتابةِ والطّرح والمعالجةِ، أو فيما يتعلّق بمعجمهِ الشخصي أو خزينه اللغويِّ، الأمرُ الذي يجد نفسه مضطراً للأخذِ من كتاباتٍ سابقةٍ في بعض الأحيان، أو الاعتماد على كتاباتِ غيره، وهذا غير صحيح البتة.
وإذا ما أراد معالجة ذلك فعليه أن يبدأَ أوّلاً بالقراءةِ المكثّفة إن كان جادّاً في ذلك، فيقرأُ القرآنَ الكريم، والمدوّناتِ الشعريَّةَ والنثريّةَ، والكتبَ المعتبرةَ التي اتّفق جُلُّ النقَّادِ والأدباءِ على ثرائها واكتنازها وقيمتها الكبيرة، ويأتي في طليعةِ هذه الكتبِ، نهجُ البلاغةِ الذي جمع فيه الشريفُ الرّضيُّ طائفةً من تراثِ أميرِ المؤمنين -عليه السلام-، من حِكمٍ، وخطبٍ، ورسائل، ووصايا وغيرها، كذلك التركيزُ على قراءةِ المقالاتِ بشكلٍ متواصلٍ ودائمٍ، وممارسته الكتابة باستمرارٍ، لتتكوّن بداخلهِ مَلَكةُ التعبيرِ والكتابةِ الجيّدة، خصوصاً وأنَّ الباحثين مقبلون على مشاريعَ بحثيّةٍ، كُلٌّ في تخصصهِ ومجالهِ، حينها سيجدُ في نفسهِ كمّاً متراكماً من الأفكارِ والألفاظِ والأساليب البلاغيّة التي يوشّحُ بها كتاباته، وسيشعرُ بأنَ قلمَه سيّالاً، منطلقاً في عالم الكتابةِ والتعبير، وهكذا يستطيعُ بعدها الكتابةَ والتعاطي في مختلفِ الموضوعاتِ والقضايا…