تنقسم معايير النص عند المشتغلين بالدراسات النصية على( معايير داخلية تتفحص النص من داخله) ، ومعايير خارجية (تتفحص محيط النص الخارجية )
ومن المعايير الخارجية للنص (المقبولية) ، إذ يرتبط هذا المعيار بالمتلقى ودرجة تقبله للنص ونفعية النص اتجاه المتلقي ، وهو بهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بالتداولية ، فهي كما يقول بوجراند (( تتضمن موقف مستقبل النص إزاء كون صورة ما من صور اللغة ينبغي لها أن تكون مقبولة )) (1) . ويرى عدد من العلماء أن مقبولية النص تتوقف في درجة كبيرة منها على مدى ملاءمة النص للسياق الذي يرد فيه (۲) ، لذلك ينبغي على المنتج – إن أراد لنصه القبول – أن يعرف المتلقي وخلفيته الفكرية وعلاقته بالنص ومنتجه
والحق أن مسألة المقبولية ليست على درجة واحدة عند المتلقين ؛ لاختلاف هؤلاء المتلقين من جهة الانتماء والهوية والميول والمستوى المعرفي وغيرها مما يُسهم في تشكيل الموقف تجاه النص ، لأن المتكلم لا يقول كل شيء أحيانًا ، بل إنه يعتمد على إسهام المتلقي في إدراك قصد المتكلم وتحقيق التواصل معه بما يحقق له النفع باكتسابه معرفة جديدة ، وأن النص يجب أن يكون محط اهتمام المتكلم .
إن المقبولية تتعلق بالمتلقي ومدى تقبله للنص ودرجة تفاعله معه ، ومن ثم فإن على المنتج أن يضع في نصه ما يُحقق له القدر الأكبر من هذين العنصرين (التقبل والتفاعل) ، والحقيقة أنه ينبني على مجموعة من السمات التي ينبغي أن تتوافر عليها ، منها ما هو داخل النص تماسكه وانسجامه وعدم تناقضه ، ومنها ما هو خارج النص بأن يكون ذا نفع للمتلقي (۳) ، فكلما كان النص متماسكا ومنسجما لا متناقضا كانت فرصته في المقبولية عند المتلقي أكبر ؛ لأن المتلقي إنما يكون عند تلقي النص بين موقفين
( الرفض والقبول) ، ويعتمد هذا على النص نفسه بدرجة كبيرة من خلال تقديمه بصورة متماسكة .منسجمة (4)
ومما لاشك فيه أن المقبولية ترتبط بالشكل اللغوي من خلال عناصره الدلالية والنحوية ، لما بينهما من علاقة تلازمية ، إذ يمد كل منهما الآخر بما يساعده في أن يُحقق للنص التماسك بين العناصر الشكلية من جهة وانسجام المكونات الدلالية من جهة أخرى (5)
إن المقبولية تُعطي الحرية للمتلقي في إعادة تشكيل النص والمشاركة في كشف غاياته ، ومن ثُمَّ فَإِن على المنتج أن يجعل نصه قابلا للتأويل ولا يخضع المتلقي للقراءة المغلقة ؛ لأن ترك هذه المساحة لحركة المتلقي وتفاعله مع النص من شأنها أن ترتفع بدرجة مقبوليته لديه وسأحاول هنا أن أتعرض لما توافر عليه النص القرآني الكريم مما جعله يتربع على العقول متقبلة وتسعى إلى تدبّر آياته ، وسنركز على المطالب الآتية :
المطلب الأول – النص والفهم
إن ما يحقق القدر الأكبر من المقبولية هو (الفهم) ؛ لأن درجة فهم المتلقي للنص تحدد درجة مقبوليته ، فكلما اقترب النص من الدرجات العلى اشتمل على العقول وقبلته النفوس ، لأن علاقة المتلقي بالنص تتناسب طرديا مع درجة فهمه لذلك النص ، وقد ركز القرآن الكريم هذه المسالة في خطاباته كلها ، إذ ما فتئ يصدح أن هذا القرآن إنما أرسل ليفهم ، لذلك أرسل ” بلسان عربي مبين ” (6) ، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول : ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بلسانِ قَوْمِهِ، ليبين لَهُم فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم” (7) ، فإن كان النص بلسان من يُلقى إليهم ولا ينطوي على الألغاز والمعميات كان أقرب إلى النفوس وأكثر تأثيرا . ولو تتبعنا السور القرآنية المفتتحة بالحمد لوجدناها واضحة المعنى تخاطب العقول كلها وتلامس المشاعر
وفي مقابل ذلك يُصرح القرآن الكريم بأن ثمة صنفًا من الناس ضلوا عن فهم القرآن الكريم لا لشيء في القرآن نفسه وإنما لأنهم ” كَذَّبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ” (8) ، فَهُم مصرون على موقفهم العدائي لهذا القرآن المبين ، فقال في وصفهم : ” وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءاية لَّا يُؤْمِنُوا” (9)
ولعل هذا الموقف المتصلب تجاه القرآن الكريم من قبل المشركين أثار حنق رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم ، وهو يراهم يُعرضون عن نص حق مفهوم على غير معتاد السمت الإنساني في أنه يتفاعل بإيجابية مع المفهوم من النصوص ، قال تعالى : ” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لن تُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ” (١٠) ، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم مخاطبا الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ” وإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِي نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم باية ” (۱۱) ، وهو مُحال لكن القرآن الكريم يُحصن نفسه من الطعن في عدم مقبولية المشركين لهذا النص ، فالسبب ليس في القرآن الكريم وإنما في المشركين أنفسهم ؛ لأنهم جعلوا بينهم وبين القرآن الكريم حجابًا يمنعهم من السمع ، لذلك قال تعالى : “إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ” (12) ، ولما كانوا قد حرّفوا عند الآيات تراهم يؤفكون ، فقال تعالى : ” أنظُرْ كَيْفَ نُصَرِفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفونَ” (۱۳) ، لقد حرص القرآن الكريم على أن يصف نفسه بأنه كتاب هداية ، لذلك ما فتئ يُصرح بذلك ويرفع الشبهات عنه ؛ لئلا يكون مدخلا للنفور منه وتضيق مساحة المقبولية عند المتلقين فقال تعالى : ” وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ” (14 )
ولعل جزء من مقبوليته أنه جاء مصدقا لشيء سابق عليه ، ولما كان ثمة شيء سابق فليس فيه غرابة تامة بل إن مساحة الحضور في أذهان أهل الكتاب لابأس بها ، ولعل القرآن هنا يُشير إلى مدخل آخر متعلق بمدخل( الفهم) وأثره في المقبولية ، فإن هذا القرآن (مصدق الذي بين يديه فلم يكن غريبا عن المنظومة المعرفية لهؤلاء المرسل إليهم ، وهو بكونه مصدق لما قبله) إنما يبدأ من نقطة متقدمة في خط السير ، ولا يبدأ من نقطة الشروع مما يعطيه فرصة أكبر للمقبولية لحضوره القبلي عند المتلقين ، فهذا الكتاب معهود عند من سبق العرب وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم : “أن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزل الكتب على طابقتين مِن قَبْلِنَا ” (15)
المطلب الثاني – المخاطب والنص :
مما لاشك فيه أن النص – بشكل أساس – يوجه نحو مخاطب حقيقي أو مفترض ، ومن ثم فإن على النص إن أراد أن تكون له مقبولية عند المخاطب أن يوجه عنايته إليه ؛ لأنه هو من يتطلب أن يكون عند حضور النص ومقبوليته . والحق أن المتلقي حظي بعناية فائقة من القرآن الكريم ، ولكننا يجب أن لا يخفى علينا أن القارئ أنواع ومراتب ، فهناك القارئ الأعلى( ابن قتيبة وريفايتر ) ، والقارئ المقصود أو الضمني ( الجاحظ وايزر) ، والقارئ النموذجي (عبد القاهر وامبيرتو ايكو) ، ولكل من هذه الأنواع من القراء حضور في الخطاب القرآني ، ويمكننا تتبع ذلك باختصار في النص القرآني المجيد
1-القارئ الأعلى : هو قارئ وسط بين القارئ (المتوسط) الذي يتميز بالسطحية والقاري (المتفوق) الذي يجذب النص إلى ما يختزنه من معرفة ثقافية واسعة . ويتميز هذا القارئ بأنه يعتمد على الدهشة وشد الانتباه للانزياحات الأسلوبية التي تتحرف أسلوبيا ، وتستدعي القارئ عندها ، ولعل ما تُمثل هذا القارئ في النص القرآني تلك الانزياحات التي عمد القرآن الكريم إلى سلوكها ممثلة بالمجازات (16) ، والاستعارات (۱۷) ، والتقديم (۱۸) ، والحذف (۱۹) ، والكناية (٢٠) ، وغيرها من المواضيع التي يضيق المقام عند ذكرها
– 2-القارئ المقصود : وهو قارئ تخيلي لا يُمثل تقاليد وأعراف القاري المعاصر لظروف إنتاج النص في محاولة من المنتج لأن يُعطي لنفسه مقبولية زمانيةً واسعة ، فيبقى تلقي نصه متجددا ما دامت الأزمنة ؛ لأن هذا القارئ المقصود يقوم بإعادة إنتاج النص على وفق ما استجد من معرفة ثقافية فضلا عن الخبرة المعرفية المتراكمة ، ومن ثم فإنّ على المنتج أن لا يغلق نصه معرفيا أو أسلوبيا على متلق من عصر معين ، ولأجل أن يحدث هذا لابد للمنتج من سلوك إجراءات نصية يُمكن التعرض لها على الشكل الآتي:
أ – من خلال المعلومات العلمية التي اشتمل عليها النص القرآني ، وهو بإيحائية بالمعرفة غير مقصودة ، ويتمثل ذلك في عرض حالة أصحاب الكهف في تقليهم ” وَنقَلَبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ “(21) ، لما في ذلك من السماح للمتلقي العلمي ( المتخصص) من الانتقال إلى النص ومعايشة الحال التي كانوا عليها ، لأنه يعلم أن في تقليبهم علة علمية (22) ، بلحاظ أن ” وَكَلْبُهُم بَسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ” (۲۳) ، ولم يُشر القرآن الكريم إلى تقليبه ذات اليمين وذات الشمال كما فعل معهم ، مما يسمح للمتلقي المتخصص بتخيل الجو العام والسبب الذي دعا إلى تشكيل النص بهذا الشكل
ب من خلال السنن التي دأب القرآن الكريم على التصريح بها ، فإن تلك السنن اكتسبت درجة عالية من الثبوت في مخيلة المتلقي مما يعطي للنص المشتمل على هذه السنن مقبولية عالية لديه ، كذكره تعالى خلق الدنيا وزوالها (24) ، والسنن الإلهية (٢٥) ، فقد أتى بحقائق تثري المعرفة الإنسانية (26)
3-القارئ النموذجي : يُفترض أن يكون للنص قارئ نموذجي وهو قارئ أقرب إلى كونه قارنا مفترضا تقع على عاتقه (المشاركة) التفسيرية لما قد يُشكل من البني السطحية للنص لتوافره على ثروة لغوية ومعرفية عامة ، وقد ترك النص القرآني أحيانًا مفتوحا أمام تساؤلات عدة يتم من خلال الإجابة عنها الإسهام في تشكيل الفهم القرآني (۲۷)، وهو ما كان يُعبّر عنه أحيانًا من دعوات التفكير التي يُطلقها النص القرآني، والتي تدعو المتلقي إلى إعادة قراءة الموجود وصولا إلى الدلالات التي حرص النص القرآني على تركها مترامية الضفاف (۲۸) ، من مثل دعوات التفكر (٢٩) ، والتذكر (۳۰) ، والدعوة إلى ( التنقل في مساكن السابقين ) (31)
ومما يدخل في هذا أيضا إقامة النص القرآني للمتلقي الحرية في استنطاق الدلالات غير المباشرة من خلال ترك مساحات من النص قابلة للتأويل ، ومما لاشك أن إشراك المتلقي في إعادة تشكيل الدلالات يُعطيه مقبولية أكبر وحضورا مؤثرا وممتدا لدى المتلقي
4-القارئ المقدر : وهو أن يتوجه بالخطاب إلى شخص عام غير محدد ، حيث يصلح أن يفهمه أي أحد يسمعه مما يُعطيه حضورًا في المنظومة المعرفية لكل المتلقين تقريبا ، فتتسع مساحة مقبوليته ، ويُمكن للمتكلم أن يُعطي هذا الدور للقارئ المقدر من خلال نقله إلى الحدث وجعله يشعر به كأنه يراه فيكسبه بذلك حضورًا قويا
ومما جاء من ذلك في القرآن الكريم في السور المبدوءة بالحمد قوله تعالى : ” وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ” (32) ، فكان الناظر في تلك اللحظة ينظر إلى واقع في حيز المنظور ليتأمل الصورة ، فلم تعد الصورة شيئًا من الماضي ، بل تعود إليها الحياة شيئا فشيئا (۳۳) ، وقوله تعالى : ” وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رَقُود” (34) ، فإن من شأن (ترى) و (تحسبهم) أن تجعل المتلقي بعيد إنتاج النص كلما قرأه ، فكل قاري يتصور نفسه (يرى الشمس في حركتها وأثرها عليهم) و( ظنه بأنهم أيفاظ) ، فكلما دخل إلى النص تحرك وهي بلا شك مما يعطي للنص حضورًا ومقبولية عند المتلقي (35)
ومنه قوله تعالى : ” ولتستبين سبيل المجرمين” (36) ، فقد قرى بالياء والتاء ، فقراءته و( لتستبين) يبدو في ظاهرها موجهة إلى النبي ولكنه يسمح بدخول أمة محمد (صلى الله عليه وآله) في هذه الاستبانة كأنه يقول : ولتستبينوا سبيل المجرمين (37)
ومن هذا المنحى أيضا ما يُمكن أن يلمح في سورة فاطر إذ قال تعالى : ” وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الريح فتثير سحابا فسقنه إلى بلد ميت ” (۳۸) ، فقد عدل النص من قوله (أرسل) إلى الفعل المضارع (تثير ) : ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة السحاب (39) ، فيكون المتلقي أمام صورة تسمح له بالتدخل في تشكيلها ولو تخيلا ، مما يعطيه حضورًا في النص ويعطي النص مقبولية أكثر ثباتا ؛ لأنه سيظهره وكأنه منتج آخر للنص ، فيكون النص أكثر مقبولية لدى المتلقي الذي لم يعد متلقيا سلبيا لا يتفاعل مع ما يلقى إليه
فيظهر لنا مما تقدم من استعراض أنماط القراء أن النص القرآني قد توجه إليهم كلهم وأعطى لكل نمط أو مستوى من القراءة ما يُمكنها من التفاعل والحضور والقبول ، ولا أدل على ذلك من كثرة التفاسير والرؤى والاجتهادات والقراءات التي رافقت هذا النص المقدس ، فكان للنص القرآني حضور ومقبولية واسعين عند المتلقين مما دفعهم إلى تفحصه ومحاولة إعادة تشكيل دلالاته في محاولة جادة للوصول إلى الدلالات الأكثر قربا
المطلب الثالث – النص واللغة :
لابد للمنتج الذي يسعى إلى أن يُضيف على نصه مقبولية واسعة لدى المتلقين أن يسلك إلى ذلك سلوكا لغويا يجمع فيه بين الاتحاد مع المتلقي في السمت اللغوي من جهة ومحاولة التفرد الأسلوبي من جهة أخرى ، ويُمكننا أن نلمح عددًا من الملامح اللغوية التي اعتمدتها السور القرآنية المبدوءة بالحمد في معالجتها للأفكار والدلالات
ا – الالتزام بقواعد التأليف والابتعاد عن ضعف التأليف ، فقد جاءت العبارات كلها قوية في تراكيبها لم تجنح عن قواعد اللغة ولم يتخللها تعقيد لفظي ، لكننا لم نعدم بعض الإشكالات التركيبية التي جاءت في عدد من المواضع في هذه السور ، وقد حاول البعض من خلالها القدح بالتركيب النصي للقرآن الكريم .
ومن هذه الإشكالات قوله تعالى : ” وكلبهم بسط ذراعيه بِالْوَصِيد ” (40)، فقيل : كيف يكون اسم الفاعل (باسط) عاملا عمل فعله وهو في الزمن الماضي ؟ في حين أن الحال أو الاستقبال شرط في العمل ، والحق أن هذا الاعتراض مردود بأن النص القرآني كان يُحاكي حالا ماضية في مسعى لنقل المتلقي إلى ساحة الحدث وزمانها من أجل أن يسهم في صناعة المعنى ، مما يعطيه مقبولية أكثر ، فـ (باسط) ليست في الماضي وإنما هي في الحال ، فقد حاول النص القرآني حكاية الحال الماضية بنقل المتلقي والسياحة به في الزمن (41)
ب – إن مما يُعطي للنص مقبولية لدى المتلقى هو الابتعاد عن التنافر اللفظي ؛ لأن التنافر يثقل على الآذان سماعه ، فيولد نفورًا لدى المتلقي ، وقد حرص النص القرآني على اعتماد الألفاظ غير المتنافرة ، فضلا عن ابتعاده عن الألفاظ الغريبة والوحشية والمهملة : لان استعمال مثل هذه الألفاظ يؤدي إلى عزلة النص وتوقفه عما يماثله ، وهو ما ابتعد عنه النص القرآني المجيد ، فكانت الفاظه ذات مقبولية عالية لسهولتها على السمع من جهة واتحادها مع العالم المعرفي للمتلقي ، مما ضمن حضورًا ومقبولية واسعة للنص القرآني (42) ، فضلا عن التفرد الأسلوبي المنساب الذي داعب العقل والشعور فكان عنصرًا من عناصر ازدياد مساحة القبول لدى المتلقين على مدى الأزمنة والأمكنة (43) ، لأنه سيكون مشاركا في إنتاج الدلالات
المطلب الرابع – النص والمنفعة
مما لاشك فيه أن تقبل النص يرتبط ارتباطاً وثيقا بما يُقدمه النص من خبرة معرفية لم تكن معروفة ، فهذا مما يجعل النص مقصدًا للمتلقين ويزيد من فرص مقبوليته لديهم ، ومن ثم ترى النص القرآني حريصا على تقديم خبرة معرفية جديدة تدفع بالمتلقي نحو الاندفاع للنص
وثمة مواصفات ينبغي توافرها في النص الذي يُقدم المنفعة من أجل أن تصل المنفعة والخبرة المعرفية إلى المتلقي كاملة ، فيحظى النص بمقبولية واسعة ومستقرة لدى المتلقي . ولعل من أبرز هذه المواصفات أن تكون الخبرة المعرفية المقدمة واضحة في ما تقدمه من معلومات مؤطرة بإطار الصدق ، يلفها أسلوب جميل وحسن إشارة ، وهنا ينبغي للنص الذي يُقدِّم الخبرة المعرفية أن يجعل المتلقي مطمئنا لما يُقدِّم من معلومات ، وقد سعى النص القرآني إلى بناء جسور من الثقة بصدق المعرفة بينه وبين المتلقي ، فقال مثلا : ” وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ” (44) ، وقال : ” وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ” (45) ، وقال : ” وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لَم بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بَصِيرٌ ” (46) ، فقد حاول النص القرآني أن يدعم مساحة مقبوليته بدعم حالة الاطمئنان المعرفي لدى المتلقي بصدق مما سيقدم إليه من خبرة معرفية
ان في قوله (الحكيم الخبير) إشارة إلى كمال المعرفة ؛ لأنه الحكيم في أمره وتدبيره والخبير بالعباد وخفايا أحوالهم وبكل شيءٍ (47) . ولعل مما يتصل بهذا الجانب أيضا حرص النص القرآني على أن يظهر الله سبحانه وتعالى بـ (المظهر المطلق) ، فهو (( الحكيم المحكم بمعنى أن افعاله متقنة أمنة من وجوه الخلل والفساد) (48) ، في الصفات مما يظهره متربعا على قمة الصفة ، فهو أشد المعاقبين في مواضع النكال والنقمة ، وأرحم الراحمين في موضع الرأفة والرحمة ، فلا شيء مطلقا غيره. وهذا يسهم في إضفاء قدر عال من المقبولية على الخبرة المعرفية التي يقدمها ، وهو ما صرح به النص القرآني في مواضع متعددة ، إذ أكثر ما يصرح القرآن الكريم بأنه نص (لم يجعل له عوجا) (49)، وأنه (قيما) ، فقال (قيما) ؛ لينفي عنه الاختلاف الاختلاف والتناقض ، بل إن بعضه يُصدق بعضا وبعضه يشهد لبعض ولا ميل فيه عن الحق (٥٠) ، فضلا عن التأكيد على لا محدودية المعرفة الإلهية إذ يقول تعالى : ( قُل لَّوْ كان الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبِّي (٥١) ، وفيه إشارة واضحة إلى أن العقل البشري لا يستطيع إدراكها تاما ، ولا يُمكن له الإحاطة بها (52) ، وهو الذي ” لَا يَعْرُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا في كتب مبين ” (٥٣) ، فقد اجتمع في هذا القرآن صدق المعرفة وعدم محدوديتها ، ومن هنا كان حرياً بها أن تكون مساحتها المقبولية ممتدة وقارة في النفس لأن ” هذا الكتاب لا يُغَادِرُ صغيرة ولا كبيرة إلا أَحْصَنَهَا ” (54) ، إذ ستجتمع فيه الإحاطة والدقة والتفصيل إلى جانب ما قد وصفه به قبل هذا من عدم المحدودية (55)
المطلب الخامس – النص والمركزية
لابدَّ لِمَن يُرِيدُ لنصه القبول لدى المتلقي أن يُحافظ على ارتباط المتلقي بنصه ، وأن لا يُضيعه بكثرة ما يُقدمه من خبرات معرفية ، فلابد من إبقائه متواصلا مع النص حتى وإن كانت الخبرات المعرفية المقدمة متعددة المظاهر ، إذ لابد من ربط الجزيئات بالموضوع العام للنص (56) ، وهذا مما يظهر بوضوح في السور المفتتحة بالحمد ولاسيما في سورة الكهف ، فالملاحظ أن هذه السورة المباركة اشتملت على أربع قصص هي قصة أصحاب الكهف (57) ، وقصة الرجلين اللذين كانت لهما جنتان (٥٨) ، وقصة موسى مع فتاه (59) ، وقصة ذي القرنين (60) ، فإن النظرة الأولية للنص تظهر القصص الأربع المتقدمة مختلفة الشخصيات وحركة الأحداث والنهايات ، مما يدفع المتلقي إلى التساؤل عن سبب جمعها في سورة واحدة ، ولأجل هذا الإشكال المتوقع من القارئ المتلقي السطحي وضع منتج النص فيه أطرا تشتمل على هذه القصص الأربع ، فقد مهد لها بقوله : ” إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ” (61) ، ثُمَّ ذكر نهايات كل قصة بما يلائم هذا الإطار العام( انتصار المؤمنين بالله وخسران غير المؤمنين) ، ثُمَّ يختم القصص الأربعة بقوله : ” ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا وَآبَنِي وَرُسُلَ هُزوا إِنَّ الَّذِينَ امَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا ” (٦٢) ، فإن مما لاشك فيه أن وجود خيط يربط أجزاء النص يسهم في إضفاء قدر عال من المقبولية لدى المتلقي بما يحفظ للمتلقي المركزية التي من شأنها أن تولد الاستقرار لديه ، فقد هيا النص الأجواء العامة أمام المتلقي فأخبره في البدء بهؤلاء الفتية ” كانُوا مِنْ ءاياتنا عَجَبًا ” (63)، من أجل أن يلفت نظر المتلقي إلى النص مؤكدًا على أنها قصة حقيقية من أجل أن يطمئن المتلقي ، فَقَالَ : ” نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نباهُم بِالْحَقِّ ” (64)، مبينا تقييمه لعملهم بأنهم مقبول عملهم لأنهم ” إِنَّهُمْ فِتيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْتَهُمْ هُدًى ” (65)، فحدد لنا الأشخاص وقيم حركتهم ووضح فلسفتهم في هذه الحركة فقالوا : ” لَن تَدْعُوا مِن دُونِهِ إلها ” (٦٦) ، فقرروا أن يعتزلوا قومهم ، ” فأواً إلى الكهف ” (67) ، حتى إذا انتقل إلى الكهف حدد مواقعهم وطبيعة تواجدهم وحركتهم فيه ، ومدة مكوثهم في الكهف سار بالأحداث في حبكة درامية مثيرة ، إذ لابد من نهاية لقصتهم فأعثر عليهم في طريقة دراماتيكية تفصيلية محاولاً إحاطة الغموض عما قد يُرافق هذه القصة من حيث طول مدة مكوثهم ووضعهم الصحي ، وقد ركز النص القرآني على محورية مهمة ، وهي أن كل ما حدث لهم مما قد يظهر بوصفه على خلاف المعهود إنما هو (من آيات الله) (68)، وكيف أنهم بعثوا وحل الاختلاف في عددهم وغيرها من التفاصيل التي كان لابد من التعرض لها من أجل أن يحل النص في المساحة المقبولة عند المتلقي ، إذ لا فجوات في النص تقدح في صدقيته ، وليس ببعيد عن هذا تفاصيل ما جاء في القصص الأخرى الواردة في سورة الكهف
المطلب السادس – النص والدقة في الإخراج:
إن مما يُسهم في إضفاء قدر عال من المقبولية على النص أيضا هو تلك القدرة على الغوص في تفاصيل أجزاء النص في ما يخص حركة الأضداد ورسم الأجواء العامة للنص : لأن من شأن ذلك أن يخلق لدى المتلقي قدرًا من الاطمئنان إلى الخبرة المعرفية المقدمة له ، ويظهر ذلك بوضوح في السور المفتتحة بالحمد من خلال محورين هامين يُمكن إجمالهما بالآتي:
أ- الدقة في السيطرة على حركة الأفراد داخل النص ، وهو ما يعرف بالإيقاع الداخلي لحركة الأفراد في الحدث المعروف ، ويظهر ذلك مثلا في قصة أهل الكهف الذين كانت حركتهم الأكثر لفتا للنظر ، وهي لجوؤهم إلى الكهف بعد حياة رغيدة ، فكانت حركتهم تعبيرا عن رفضهم زخرف الحياة الدنيا، ورحلتهم إلى الله سبحانه وتعالى ، وهي الحركة نفسها التي قام بها موسى ومعلمه اذ تبعه موسى على ان يعلمه
مما علمه الله ، فترك زخرف الحياة ورحل إلى الله مع معلمه وغيرها من المواقف التي رسمت حركة الافراد (69)
ب – التفصيل في رسم الأجواء العامة للحدث من شخصيات وزمان ومكان واحداث ومقدمة وحبك ونهاية ، وقد ظهر هذا الجانب واضحا في قصة أصحاب الكهف ، وقد تم رصد المشهد بدقة وتفصيل عاليين مع الحفاظ على الدقة والربط بين أجزاء المشهد (70)
الخاتمة :
يمكن أن تدرج النتائج التي توصلت إليها دراستنا لمعيار المقبولية على النحو الاتي :
1-تمثل القدر الأكبر للمقبولية بالفهم ، لأن درجة فهم المتلقي للنص تحدد درجة مقبوليته ، وقد اعتنى القرآن الكريم بهذه المسألة وعدها وظيفية تسهم إسهاما فاعلا في بناء المعنى
– 2-اعطى القران الكريم للقارىء مساحة واسعة
3-مقبولية النص القرآني العالية عززت من فرص التلقي ، وحفزت القارئ على التفاعل والمشاركة في النص
– 4- أسهم أسلوب الحوار والسؤال والجواب في تعزيز مقبولية النص ؛ لأنه ساعد على تحفيز المتلقي للتفاعل مع النص
الهوامش
النص والخطاب والإجراء : ١٠٤ .
ينظر : م . ن : 91.
ينظر : علم لغة النص النظرية والتطبيق : ٣٤ .
ينظر : لسانيات النص : ٣٨٦ .
ينظر : النص والخطاب والإجراء : ۷۱ .
سورة الشعراء : ١٩٥
سورة إبراهيم : ٤ .
سورة الأنعام : ٢٤.
سورة الانعام : ٢٥.
سورة سبا : ٣١.
سورة الأنعام : ۳۵.
سورة الانعام : ٣٧.
سورة الانعام : ٤٦.
سورة الانعام : ٩۲.
سورة الانعام : ١٥٦.
ينظر : سورة الأنعام : ٦٨ و ٧٦
ينظر : سورة الفاتحة : ٦ ، سورة الانعام : ٥٩ و ٧٦ ، سورة الكهف : ٧٧ ، سورة سبا : ٤٩ .
ينظر سورة الفاتحة سورة الأنعام: ١٤ و ٢٥ و ١٤٩ ، سورة فاطر: ١٠ و ٤٨.
ينظر : سورة الانعام : ١٢ و ١٩ ، سورة الكهف : ۱۰۳ ، سورة سبا ۱۲ ، سورة فاطر : ۲۸.
ينظر : سورة الفاتحة : ٧ ، سورة الأنعام : ١٢٥ ، سورة الكهف٦٠و١٠٩ ، سورة سبا ٥١ و ٥٢ و ٥٤، سورة فاطر : ٤٥.
سورة الكهف : ۱۸.
ورد عن الامام الباقر(عليه السلام ) : ترى أعينهم مفتوحة وهم رقود نيام ونقلبهم في رقدتهم ذات اليمين وذات الشمال في كل عام مرتين لا تأكل الأرض مايليها من أبدائهم على طول الزمان ، ينظر :تفسير القمي : ٢/٣٤، وتفسير الطبري 15-191 ، وتفسير الصاقي : 3-236
23- سورة الكهف : ۱۸
24- ينظر : سورة الكهف : ٤٥ .
25- ينظر : سورة فاطر : ٤٣ ، سورة الانعام : ١١ / ٤٧ ، سورة سبا : ١٧ / ٤٥
26- ينظر : تفسير القمي : 1-194، والكشاف : 2-328، والبحر المحيط : 4-85 ، وتفسير الصافي : 14-110 .
27-يظهر هذا بوضوح في الآيات التي دعت المتلقي إلى تصور طبيعة عقاب الله ، ينظر : سبا : ٤٥ .
28-يظهر هذا المنحى بوضوح في الدعوات القرآنية إلى التفكر في آيات الله وإلى تدير هذا القرآن وغيرها من الآيات التي أعطت للمتلقي مساحة من المشاركة في تخيل الدلالات .
29-ينظر : سورة الأنعام : 50
30- ينظر : سورة الأنعام : ۸۰ و ۹۰ و ۹۵ و ۱۲۶ و ۱۵۲
31- ينظر : سورة الأنعام : ٣٥ و ٦٥ و ۱۱۱ و ۱۵۱ ، سورة فاطر ۳۰ .
32- سورة الكهف : 17
(۳۳) ينظر : الكشاف : ٣ / ٥٧٠ 33-.
34-سورة الكهف : ١٨ .
35- ينظر : تفسير الطبري : ۱۵/ ۱۸۷ ، و الكشاف : 3-570
36- سورة الأنعام : ٥٥
ينظر : إعراب القرآن الكريم وبيانه ، محي الدين الدرويش : ۳ / ۱۲۷ .37-
(۳۸) 38-سورة فاطر : ۹ .
ينظر: الكشاف : ٥ / ١٤٢ 39-.
40- سورة الكهف : ١٨
41- ينظر : تفسير الطبري : ١٥ / ١٩٠
42- لم ترد في السور المفتتحة بالحمد ألفاظ تحدد مساحة التلقي عند المقابل لذلك فكل هذه السور
تصلح ميدانا للتطبيق لذلك لم تحتج إلى التمثيل له
43- ينظر : تفسير الطبري : ١٥ / ١
44- سورة فاطر : ١٤
45- سورة الأنعام : ۱۸ و ۷۳ ، وسورة سبأ : ۱
46- سورة فاطر : ٣١
47- ينظر : سورة الأنعام : ١٨ ، و الكشاف : ٣٣٢/٢، والبحر المحيط : 4-95 وتفسير الصافي : 7-111