الملك نبوخذ نصر الثاني (604-562 ق.م) في سياسة الملك انطيوخوس الثالث (223-187 ق.م)
الملك نبوخذ نصر الثاني (604-562 ق.م) في سياسة الملك انطيوخوس الثالث (223-187 ق.م)
ا.د حسن حمزة جواد
جامعة كربلاء-كلية التربية للعلوم الانسانية
سنحاول في هذه الاسطر القليلة الأجابة على عدة تساؤلات، وهي من هو الملك نبوخذ نصر الثاني؟ ومن هو الملك انطيوخوس الثالث؟ ولماذا وكيف وظف الأخير اسم الملك نبوخذ نصر الثاني في سياسته؟ ماهي الأهداف المتوخاة من ذلك؟
يعد الملك نبوخذ نصر الثاني من أشهر ملوك العراق القديم، تأتي شهرته من دوره العسكري في تحقيق العديد من الانتصارات على خصومه، ومد حدود المملكة البابلية الحديثة (626-539 ق.م) الى ارجاء واسعة من العالم القديم، اي أصبح لبابل في وقته مكانة كبيرة بين ممالك ودول العالم القديم، وبدأ الانهيار بعد وفاته يحيط بأركان الامبراطورية البابلية من ازمات داخلية سياسية واقتصادية، كذلك تأتي شهرته أيضاً من اعماره لعاصمته بابل ومدن عراقية قديمة اخرى، فجلب الصناع والحرفيين من مختلف الارجاء، ومنهم اليهود لبناء قصوره فيها، التي ما زالت في بابل تحكي للأجيال قصة ذلك العاهل، لقد اقترن اسم هذا الملك في ذاكرة البابليين مع النصر والعزة والشجاعة والأعمار والبناء والتطور، مما جعل مكانته مرموقة في ذاكرتهم، ذاكرة الأجيال اللاحقة.
ان السنوات التي تلت سقوط بابل على يد الغزاة الاخمينين سنة ٥٣٩ ق.م لم تشهد قيام حكم وطني استمر حتى دخول العرب المسلمين، وضم العراق الى حاضرة الدولة العربية الإسلامية سنة 637م/16 ه، وكان نتيجة كل المحاولات التي قام بها البابليون هو الفشل، بل تعرضت بابل الى اشد انواع القسوة والخراب على يد الملوك الاخمينين، وبدأت بابل تستبدل الفاتح بأخر جديد، فذهب كورش الاخميني وخلفاءه وحل محله الاسكندر المقدوني ومن ثم خلفاءه السلوقيين، الذين خاض مؤسس دولتهم الملك سلوقس الأول صراع كبير مع خصومه ومنافسيه من اجل السيطرة على العراق القديم، وكانت انعكاسات ذلك الصراع واضحة ونتائجها السلبية كبيرة على مدن وبلدات بلاد الرافدين لا سيما مدينة بابل مقر الحاكم السياسي، الذي استمر بذلك حتى تأسيس مدينة سلوقية دجلة حوالي سنة 305 ق.م، لتكون العاصمة الشرقية للإمبراطورية السلوقية ومقراً لولي العهد السلوقي.
شهدت بلاد بابل استقرار سياسي في سنوات حكم الملك سلوقس الأول بعد طرده لخصمه القوي الملك انتيجونيوس وابنه ديمتريوس الملقب بمحاصر المدن من بلاد بابل، كذلك شهدت استقرار زمن حكم خليفته الملك انطيوخوس الأول، في حين عمت المشاكل والفوضى بلاد الرافدين في السنوات الأولى من حكم الملك انطيوخوس الثالث، وسيطر المتمرد والمنشق عن الحكم السلوقي المدعو مولون (Molon) على بلاد بابل وعاصمته سلوقية دجلة، استطاع الملك السلوقي انطيوخوس الثالث الملقب بالكبير اعادة سطوة وهيبة الدولة السلوقية، اذ قام بعدة حملات عسكرية في الشرق والغرب، وامتدت سلطته على مناطق واسعة من العالم القديم، الا ان ذلك لم يدم طويلاً اذ اصطدم بالقوة الفتية والجديدة في حوض البحر المتوسط الجمهورية الرومانية، التي قوضت السلطة السلوقية وفرضت عليها معاهدة مهينة وغرامة حربية كبيرة، عرفت بمعاهدة افاميا.
ورد في المصادر المسمارية وبالتحديد في أحد السجلات الفلكية البابلية زيارة الملك انطيوخوس الثالث الى بلاد بابل، ولقاءه بكهنة معبد الايساكيلا ومسؤولي المدينة، وحصده لعدد من الهدايا، وصف في هذا النص العائد الى سنة ۱۸۸ – ۱۸۷ ق.م ذكر لحركة النجوم والكواكب والظواهر الجوية، كذلك تطرق الكاتب فيه إلى ذكر اسعار المواد الغذائية الأساسية مثل الشعير والسمسم وبعض الأحداث السياسية، يهدف النص الى التنبؤ بالإحداث الاقتصادية المقبلة، وبالشرور المستقبلية المحتمل وقوعها، تأتي أهمية هذا النص من كونه يمثل ادلة معاصرة ينظر لها كمصدر تاريخي موثوق.
من ضمن ما كتب في المذكرة الفلكية المشار اليها اعلاه تقديم كهنة بابل الهدايا للملك، وتقديمه الأضاحي للآلهة البابلية، مع ذكر حصوله على رداء الملك نبوخذ نصر الثاني، وصف من بعض الباحثين بأنه رداء رمزي أرجواني شارك فيه الملك انطيوخوس الثالث في احتفالات رأس السنة البابلية (عيد الأكيتو) بمدينة بابل.
ما هي الأسباب والدوافع التي وقفت وراء هذه الحادثة؟ اي لماذا قدم كهنة بابل رداء الملك نبوخذ نصر الثاني الى الملك السلوقي انطيوخوس الثالث؟ هل رغب الأخير بتحقيق اهداف سياسية من وراء ذلك.
بسبب ضعف النص المسماري اختلف الباحثون في رداء الملك نبوخذ نصر الثاني، فيما يخص نوعه، وهل اخذه الملك انطيوخوس الثالث كهدية، لاسيما انه كان يمر بضائقة ماليه بسبب شروط معاهدة افاميا المجحفة، ولكن ما هي قيمة رداء مر عليه أكثر من ٤٠٠ عام تقريبا، ومن هو الذي يشتريه.
فسر بعض الباحثين ارتداء الملك السلوقي لرداء الملك نبوخذ نصر الثاني على انه بعد سياسي أيديولوجي يحمل معاني عدة، منها اشارة للحكم السلوقي الشرعي على بابل، وتأكيد على الدور التقليدي للملك البابلي، الذي تقمصه الملك السلوقي، كذلك حلقة وصل وربط مع المملكة البابلية الحديثة (الكلدانية)، التي انتمى لها أخر ملك وطني بابلي، اي ان الحادثة او الممارسة عبارة عن وسيلة لتحقيق اهداف سياسية، وأن الرداء علامة على الانتقال الرمزي للسلطة، ففيه اضافة للشرعية على حكم السلوقيين في بابل.
هنالك عدد من الأمثلة في التاريخ القديم فيها اشارة الى استخدام رداء الملوك السابقين، دلت على معاني سياسية وايدولوجيات فكرية مختلفة، فمثلاً ارتدى الملك الاخميني أرتحششتا في مدينة بزركاده(Pasargadae) بمعبد اناهيتا رداء الملك كورش الكبير حين تنصيبه ملكا على الدولة الاخمينية، وهنا الفرق بين أرتحششتا وانطيوخوس الثالث ان الأخير كان ملكا بالفعل، الا انه يمكن ان يكون اشارة الى اعادة تنصيبه في بابل ملكا حسب العادات والتقاليد البابلية المتعارف عليها في عيد الأكيتو، والمتمثلة بإعادة تنصيب الملك من قبل كبير الكهنة كل عام، ومن الامثلة الأخرى أيضا هو ان القائد الروماني بومبي لبس رداء الاسكندر المقدوني أثناء موكبه المنتصر في روما سنة 61 ق.م، بعد حصوله على رداء الأخير من المهزوم ميثرادتس، وهذا يمكن تفسيره على ان روما وريثة لأمجاد الاسكندر المقدوني.
يمكن القول ان في هذه الحادثة تذكير بمكانه بابل وعظمتها ايام ملكها نبوخذ نصر الثاني، ففيها اثارة المشاعر الحماسية للسكان المحليين، وان انطيوخوس الكبير لهو باعث لأمجاد بابل من جديد، فربط نفسه بنبوخذ نصر الثاني بارتدائه لردائه، الذي كان في خزائن معبد الايساكيلا، معبد الاله البابلي الكبير مردوخ، الذي عد قرين زيوس اليوناني، فالسياسة ليست بمعزل عن الدين.
للمزيد انظر:
حياة إبراهيم محمد، نبوخذ نصر الثاني (604-562 ق.م) (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة،1983م).
فوزي رشيد، الملك نبوخذ نصر الثاني حياته ومنجزاته(بغداد: وزارة الثقافة والاعلام، 1991م).
Irene Madreiter, “Antiochos the Great and the Robe of Nebuchadnezzar: Intercultural transfer between Orientalism and Hellenocentrism.” Cross-Cultural studies in Near Eastern history and literature 2 (2016).