المبحث الثاني :المنطلقات المؤسسة للعنف في تأويل الخطاب
ا.د هادي شندوخ حميد / قسم اللغة العربية
اولا :المنطلق الاسطوري : لعل بقاء صورة تشكيل المرأة في المتخيل الذهني ، هو الامتداد الى مجموعة من المنطلقات التي مازالت فاعلة في انتاج منظومة من التصورات تتيح للرجل الهيمنة وقوة التسلط ، وتجعل عالم المرأة محاصرا في ظل حدود عالم الرجل .
ومن جملة العوامل المساهمة في خلق تلك التصورات هو مالفَّ المرأة من اعتقادات اسطورية تكاد ان تكون ماثلة في التفسير والتاريخ واللغة والحديث والفقه ،بحيث خلقت رؤية سلبية عن كل مايحيط بها من تفاصيل وشؤون .
فالاساطير هي في اصولها قصص وحكايات وخرافات رمزية تستخدم الفاظا واشارات خيالية مثيرة للوجدان ربما عبرت عن حادثة تاريخية معينة حدثت في زمن مضى او عن دهشة لعمل خارق للعادة قد لايمكن تنفيذه و تحقيقه (22) فاساس النظرة الدونية ينطلق من تلك التاسيسات الاسطورية غير المرتبطة بتشريعات او اعراف او تقاليد ، بل توالد لانساق دافعة صنعتها المخيلة البشرية وفرضتها على الواقع . اذ : ” تستقي الاساطير وجودها من موضوعات كائناتها ميثولوجية تتجاوز تصورات الواقع الملموس فهي وليدة الفكر الانساني ولها ارتباط جدلي بالبنية الاجتماعية اذ تشكل لغة التعبير الشعبي وموضوع الاعتقاد لاتصالها الوثيق بالغيبيات” (23)
ففي الاساطير نكتشف ان التاريخ البشري له انساقه التي لاتنفصل عن معطيات الواقع فهما او تلقيا سواء اكان صحيحا ام خاطئا ، فالمسار التي تحكمت به هذه المفاهيم حوّل وقائع الحياة الى يقينيات وعلامات ثقافية تجتاج تصوراتنا في الى موضوع ما والمرأة بوجه خاص.
فحديث اسطورة خلق المرأة خلق مسارا حاكما على كثير من المفسرين حيث الانتقاص من قيمتها والنظر اليها بوصفها تابعا للرجل في وجودها وحياتها ، ومثل ثقافة تجاوزت الحقيقة الطبيعية والفطرية للانسان فانقسمت النظرة الى ثنائيات من الفروق التمييزية لصناعة نسق متعال من الاصل والفرع والاعلى والادنى والاكمل والانقص في دائرة (الرجل والمرأة). بما في تلك (الانا والاخر) من رمزيات قيمية حملت في طياتها اسقاطات اجتماعية ودينية وتاريخية في المراحل اللاحقة .
ينقل الطبري تلك القصة : ” لما أسكن الله آدمَ وذريته – أو زوجته – ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله – فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك ” (24) فهي مروية من المرويات التي يصح اليوم ان نصنفها تحت باب الاساطير كما يقول نصر حامد ابو زيد” (25) ، وفي تلك الصياغة تحمل المرأة وحدها لا الرجل مسؤولية السقوط وهو موقف يكشف الانحياز ضدها (26). بوصفه ظاهرة عابرة للازمنة في تشكيل ثقافة الرجل خلال المراحل التاريخية المختلفة ، فالخيال المصنوع من تلك الصور بمرور الزمن يحيل تلك الحوادث وغيرها الى معان مستقرة تعترف بحدود الرجل وسلطته ازاء المراة.
والتعليل المصاحب لتلك الصورة المتعلقة بخروج آدم وحواء من الجنة تقدم تعليلا لظاهرتين طبيعتين الاولى منهما : ظاهرة الدورة الشهرية عند المراة ومايصطحبها من الالم من جهة والالام المصاحبة لعمليات الحمل والولادة من جهة اخرى ، ويتصل بهذه الظاهرة الاولى تبرير الوضعية المتدنية للمراة في الواقع الاسلامي العربي كما يبدو من وصفها بنقص العقل والدين اما الظاهرة الثانية التي تتعرض القصة لتعليلها في سياقها بشكل يبدو عرضيا فهي ظاهرة الحية الزاحفة ويبدو ان الفة العربي للحيوانات ذات القوائم الزاحفة في حاجة الى تفسير لكن الاخطر في القصة تلك هو ذلك الربط الذي اوقعته بين حواء والحية لاعلى مستوى الاشتقاق اللغوي فقط بل على مستوى اشتراكهما معا في مساعدة الشيطان لاغواء ادم الرجل حتى ارتكب معصيته وخرجت معه البشرية كلها من الجنة ولانهما اشتركا في جريمة مستمرة الاثر وشاملة فقد كان عقابهما معا عقابا من جنس العمل عقابا مستمرا وشاملا.(27) وتتفشى خرافة اخرى اقترنت بالمرأة في ضوء المرسوم لها من مرويات واساطير رسخت في الذاكرة حيث جعلت منها رمزا للسحر والشعوذة والتطير وهي وظيفة انيطت بالمراة فقط بوصفها المخزن الذهني لكل الاعمال الشريرة ، من ذلك مايلحظ في تفسير قوله تعالى : “وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ” (الفلق : 4) ،ان النفث النفخ مع ريق ، ومنهم من قال : إنه النفخ فقط ، والعقد جمع عقدة ، والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطا ، ولا يزال يعقد عليه عقدا بعد عقد وينفث في تلك العقد ، وإنما أنت النفاثات لوجوه ( أحدها ) : أن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن ، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر وإحكام الهمة والوهم فيه ، وذلك إنما يتأتى من النساء لقلة علمهن وشدة شهوتهن ، فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى (28). وذلك اساس مركزي في حقيقة العنف الملازم للرجل في نظرته الى المراة اذ تم اسقاط الطاقات الذهنية المتضمنة لحرمان المراة من الصفات النبيلة في ضوء تلك المعطيات من التوجيه .
ثانيا : المنطلق الديني : في الحقيقة لايبتعد التصور الديني عن تاسيس العنف اتجاه المرأة نتيجة اسقاطات فهم مغاير للحقيقة في النظر والمعاينة لكائنية المراة ووجودها الانساني.
فقد سعت اغلب الديانات التوحيدية ماعدا الاسلام الى اعطاء تصور تتعالى فيه سلطة الرجل على المرأة بترتيب وتنظيم يعبر عن تصنيف قهري ماثل للعيان مرتبط باجتهادات مغايرة للحقيقة ، بدءا بالديانتين اليهودية والمسيحية التي تفاعلت فيهما ثقافة تغييب المرأة عن المشهد مهما كانت لها من سلطة اقترنت بالالهة او انها التجلي الاكبر للام ، “فالمرأة في الفكر المسيحي كما هي في الفكر اليهودي حليفا للشيطان ورمزه الوحيد المجسد على الارض” (29)
اما حضورها في الاسلام فقد ارتكز على احداث نقلة في التشريع والثقافة والمنزلة وبنظام يحفظ له حقوقها ومكانتها ، وراس تلك الاولويات تخصيص سورة خاصة بهن اسمها (النساء) ، كما اتيح لهن مساحة من ممارسة الانشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وبرز في تلك الاطر نساء فاعلات في مشهد التاريخ.
لكن شيوع العقلية القبلية لدى المفسرين لم يسلم منها التوجيه القرآني واظهار الطبقية الفكرية والاجتماعية بين الرجل والمراة ، ، مثال ذلك في توجيه قوله تعالى : “(وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) النساء: 34 ” فقد اختلف المفسرون في توجيهها ، مستندين في ذلك الى مائز التفاوت بين عقل الرجل والمراة من جهة وتاكيد تبعيتها للرجل كونها الاقل عقلا ومرتبة .قال الطبري : “: يعني بذلك جل ثناؤه: فعظوهن، أيها الرجال، في نشوزهن، فإن أبينَ الإياب إلى ما يلزمهن لكم، فشدّوهن وثاقًا في منازلهن، واضربوهن ليؤبن إلى الواجب عليهن من طاعته الله في اللازم لهنّ من حقوقكم” (30) وبلاشك ان هذه الرؤية الكامنة في فعلي (الشد والضرب) تجريد للمراة من انسانيتها وانزالها الى مرتبة الحيوانية عند التعامل معها، ” وهو ما رسَّخ دونية المراة عند بعض فقهاء المسلمين ومن قلَّدهم في ذلك ” (31) .
وفي صورة اخرى ضاربة في اعماق جذور الثقافة التفسيرية ، نلحظ وجود الباعث الديني في تفسير قوله تعالى : ” يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” (النساء: 1)، حيث تبرز معضلة خلق حواء في الادبيات الاسلامية واختلاف التاويل في معاينتها، بشكل تحاول الرؤية التفسيرية خلق قيمة عند المتلقي من خلال تضافر حزمة نسقية من الروايات والاستدلالات لاثبات تلك الدلالة القائمة على اقصاء المرأة منذ خلقها الاول ، تقول احدى الباحثات : “اذا كان النص القراني بريئا من قصة المراة الضلع فان النص التوراتي في بنيته الفكرية والثقافية حاضر في كتب التفسير الاسلامية ” (32) ، قال الطبري : ” وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة – ينظرون ما بلغ علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له: ” يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما ” (33) ، وبلاشك ان هذه الرمزية تسوق قبحا لصورة المراة لان الصناعة الثقافية في الوعي العام خلقت نموذجا رمزيا لثنائية التابع المخلوق من الرجل.
وتتجلى تلك المزايا في سياق من الافضلية للرجل عند الرازي في تعليقه على قوله تعالى : “بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34] ، يقول : “واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة ، بعضها صفات حقيقية ، وبعضها أحكام شرعية ، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين : إلى العلم ، وإلى القدرة ، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر ، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل ، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة ، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي ، وأن منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق ، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه ، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث ، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج ، وإليهم الانتساب ، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء ” (34) ، وبتلك الازاحة تتحقق اغراض السيطرة على المرأة ليس على منطق الاعتدال القرآني بل اسقاطات قبلية من المفسر على النص ينظر الى المراة بانها كائن لايمكن ان يحقق ذاته الا بالغيرية .
ثالثا: المنطلق الثقافي : لعل هذا المعطى من المظهر الثقافي لايحتاج تاملا طويلا او حفرا لاستظهاره في المتخيل الإسلامي ،فقراءة تراتبية لمسيرة الحراك الفكري اتجاه المرأة ينبيء عن خطاب تشكل من بنيات ذكورية مهيمنة في مساحة الزمن ، وكله محكوم بسياقات تتيح هذا التجلي والنمط القولي ، لاسيما الخطاب القائم على التاويل فهو أداة لصناعة مقولات العنف والاقصاء والكراهية تثبت في مخيلة المتلقي من خلال التمويه بتلك الاستراتيجيات من التوظيف والتشكيل المزدوجين . يقول احد الباحثين عن تلك الصناعة التأويلية : (( انهم اوَّلُوا القران واوَّلُوا سيرة الرسول من خلال منظار عصرهم وسلِّم قيمه ومن خلال الشبكة المفهومية التي تكونت طيلة ما يزيد على القرن )) (35)
والمنظور الحاكم في تشكيل هذا المعطى الثقافي هو ثنائية الصراع بين سلطتي المرأة والرجل ،التي خلقها المناخ الثقافي في صيرورة لها الديمومة والاستمرار على نحو من الالتباس والتداخل ، تشي بتعزيز قناعة الفوقية والدونية على المدى الطويل لكل من الطرفين ، تقول الدكتوره السعداوي : ” ان الخضوع والسلبية والضعف والمازوشية (حب الاذلال) ليست صفات نفسية للمراة ولكنها تصبح صفاتها من اثر الاضطهاد الاجتماعي الطويل” (36) ، ومن ثم فان الذاكرة الثقافية للمرأة على امتدادها وتحولاتها عززت الكثير من القيم الراسخة في ذهنية الرجل فاستوحاها في التوظيف الاجتماعي والديني والثقافي لتكون في النهاية ايحاءات معبرة عن حقائق وليست رؤى عابرة.، من ذلك مايراه الطبري في قوله تعالى : ” ولاتؤتوا السفهاء اموالكم (﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾(): اختلف أهل التأويل في”السفهاء” الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم فقال بعضهم: هم النساء والصبيان.) (37) ، معتمدا في ذلك على صناعة اللغة في انتاج معنى السفه الذي يدل على : “خفة النفس كنقصان العقل في الأمور الدنيوية والأخروية” (38) وعن ابن منظور : ” خِفَّةُ الحِلْم، وَقِيلَ: نَقِيضُ الحِلْم، وأَصله الْخِفَّةُ وَالْحَرَكَةُ، وَقِيلَ: الْجَهْلُ وَهُوَ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ” (39) وبالتالي فان تلك السطوة من التوجيه افضت الى انتاج لغة ثقافية منسجمة مع طبيعة المجتمع الذكوري المؤمن بنقص عقل المرأة وايمانها وجهلها اذا قورنت بالرجل.
ويصل الحال الى تحديد الهوية الثقافية للمراة من خلال وسمها بصفات عدم الابانة لاثبات افضلية الرجل في ابداء الحجج والتعبير عن ذاته ، مثال ذلك مايشرحه المفسر في قوله تعالى : “﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ قال: النساء فقلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. (40) ويتلاقى في هذه التجاذبات الاضطراب النفسي القائم على رؤية المرأة بانها وسيلة امتاع وانها اول المشتهيات الجسدية ، حيث الاستلاب لكائنيتها الانسانية بتجريدها من كل الصفات الفاعلة روحيا واخلاقيا واجتماعيا ، قال تعالى : “يِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ” (ال عمران : 14) ، حيث تتجسد صورتها في وعي الرجل بانها مجال من مجالات الاستمتاع المذكورة حسب مايرى بعض المفسرين : “من النساء بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن ; لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال” (41) وعند الطبرسي المعنى ذاته : “ثم قدم سبحانه ذكر النساء فقال (من النساء) لأن الفتنة بهن أعظم” (42)
وتحت تاثير الثقافة الاجتماعية راج مبدأ صيانة اسماء النساء عن الذكر استجابة للعادات والتقاليد السائدة وهي فكرة ذات تصور محفور في ذاكرة الرجل الغاية منها محو وجود المراة المرادف للرجل ، وفي كل ذلك لاحول ولاقوة لها في ابراز وجودها المعلن امام تلك السلطة ، من ذلك ماقيل في قوله تعالى : ” وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ” [سورة البقرة:35] ، قال ابن عاشور : ” ولَمْ يَرِدِ اسْمُ زَوْجِ آدَمَ في القُرْآنِ واسْمُها عِنْدَ العَرَبِ حَوّاءُ… فاسْمُ زَوْجِ آدَمَ عِنْدَ العَرَبِ حَوّاءُ واسْمُها في العِبْرانِيَّةِ مُضْطَرَبٌ فِيهِ” (43) وبهذا المسار تحولت الى هامش استسيغ من المتخيل العربي ، فاصبح عدم التصريح بها وجودا فاعلا لايمثل اي استهجان او رفض لتلك التاسيسات الثقافية كما راينا عند ابن عاشور في تعليقه السابق .
المنطلق اللغوي : لايخفى ان لتمثلات اللغة حضورها في تشكيل الرؤية الكونية للافراد ، فهي الحاضنة والمعبر عن التصورات والافكار والرؤى بتلك القوالب اللفظية وبلاشك من حمولاتها الرئيسة انها تحكي الفروق التعبيرية في الاستعمال بين المذكر والمؤنث ، دون تلاشي التحيزات اللغوية الظاهرة في تعبير الرجل اتجاه المراة وغيرها ، ” فاللغة تعكس تنظيم المجتمع ولكنها ايضا وسيلة لبناء الواقع/ الحقيقة والسلوك اللغوي يعكس الفروقات في القوة وفي الان نفسه يسهم في التوزيع غير العادل” (44) ،ولما كانت اللغة بهذا الشأن ، لابد حينئذ ان يكون مخزونها عبارة عن نسيج مشترك دال على هوية المجتمع العربي ومدارات تفكيره ، بالشكل الذي لايعدم فيه تمثلات السلوك الإنساني بتلك اللغة الواصفة ، وحال الانسان العربي كما يصوره الواصفون لم يكن على ثبات في الرؤية او العيش جراء حياتهم المتنقلة وصراعاتهم المستمرة ،(فالفرد لايكاد يفتح عينه للحياة حتى يجد الثقافة الاجتماعية قد ضربت نطاقها عليه وشملته بقيمها ومركباتها وطابعها العام) (45) ، ومن انعكاسات تلك الهوية في قبليات المفسرين عند تناولهم سياقات خطاب المراة في النص القراني ، تعليقهم على قوله تعالى : ” يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ” [آل عمران:43] ، قال الالوسي : ” وجاء {مع الراكعين} دون الراكعات؛ لأن هذا الجمع أعم، إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب” (46) والتغليب في حقيقته لم يكن مبنيا على اسس سليمة ، بقدر ماهو ثقافة ذكورية تسيد فيها الرجل على المراة قرونا حتى شاع الاستعمال واصبح قارا ، انه الاصل وهي الفرع ، قال الثعالبي : ” وتغليب الرجال من سنن العرب” (47) ، فاللغة هنا ليست منقطعة عن المناخ الثقافي المهيمن على تلك التوجيهات وغيرها . ومن وحي البيئة وسلطان الثقافة الذكورية في التعبير اللغوي مانلمسه في توجيه الالوسي في قوله تعالى : ” ﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ﴾ (الشورى : 49) ” ” وناسَبَ هَذا اَلْمَساقَ أنْ يَدُلَّ في اَلْبَيانِ مِن أوَّلِ اَلْأمْرِ عَلى أنَّهُ تَعالى فِعْلٌ لِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ سُبْحانَهُ لا مَدْخَلَ لِمَشِيئَةِ اَلْعَبْدِ فِيهِ فَلِذا قُدِّمَتِ اَلْإناثُ وأُخِّرَتِ اَلذُّكُورُ كَأنَّهُ قِيلَ: يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَن يَشاءُ مِنَ اَلْأناسِيِّ ما لا يَهْواهُ ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ مِنهم ما يَهْواهُ فَقَدْ كانَتِ اَلْعَرَبُ تَعُدُّ اَلْإناثَ بَلاءً ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ ولَوْ قَدَّمَ اَلْمُؤَخَّرِ لاخْتَلَّ اَلنَّظْمُ، ولَيْسَ اَلتَّقْدِيمُ لِمُجَرَّدِ رِعايَةِ مُناسِبَةِ اَلْقُرْبِ مِنَ اَلْبَلاءِ لِيُعارَضَ بِأنَّ اَلْآيَةَ اَلسّابِقَةَ ذَكَرَتِ اَلرَّحْمَةَ فِيها مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ فَناسَبَ ذَلِكَ تَقْدِيمُ اَلذُّكُورِ عَلى اَلْإناثِ، وفي تَعْرِيفِ اَلذُّكُورِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ اَلِاسْتِدْراكِ لِقَضِيَّةِ اَلتَّأْخِيرِ اَلتَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ اَلْمَعْرُوفُ اَلْحاضِرُ في قُلُوبِهِمْ أوَّلَ كُلِّ خاطِرٍ وأنَّهُ اَلَّذِي عَقَدُوا عَلَيْهِ مُناهُمْ ” (48) فالتحيز اللغوي تجلى في النظر الى التركيب (تعريفا وتنكيرا للاناث والذكور) ، حاملا في طياته خصائص كل من الاستعمالين ، وعلى راي الالوسي التعريف بالتاخير كانما اشرف من التقديم بالتنكير ، او كما يقول البيضاوي : ” أوْ لِأنَّ الكَلامَ في البَلاءِ والعَرَبُ تَعُدُّهُنَّ بَلاءً ” (49) وهو نسق قيمي جاهز يمثل الصورة الحقيقة المالوفة في التفكير عند المفسرين بوصفهم نتاج بيئة عربية تؤمن بسلطة الرجل اكثر من المراة.
واذا كانت : (( اللغة تقوم بوظيفة سلطوية تتجلى سلطتها على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون)) (50) ، فان ذلك يلحظ في توجيه بعض المفسرين لقوله تعالى ” : (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) (ص:23) ، قَالَ النَّحَّاسُ: ( وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمَرْأَةِ بِالنَّعْجَةِ وَالشَّاةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ وَالْمَعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحِجْرَةِ وَالنَّاقَةِ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ) (51) فالعلاقة تتساوى فيها المرأة في ضوء هذا التاويل مع الحيوان لمشابهة في طابع العجز والضعف في كليهما فهي : ” بمثابة العجماوات التي لاتبين ولاتنطق” (52) وتلك صورة قاسية لمنحى اجتماعي يكشف عن اللامعقول في التصور والرؤية لكائن هو من خلق الله لايختلف عن الرجل الا في التكوين البايلوجي والوظيفة. وعن التعسف في التعميم نلتمس الاطلاق في الخطاب الواصف للمرأة في بعض الايات ، غايته استلاب فاعليتها الاجتماعية والثقافية والفكرية ، قال تعالى : ” فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (يوسف : 28) ، فالامتداد في الخطاب هو الصيغة الغالبة في توجيهات المفسرين حيث الاشارة الى رؤية تصبغ العالم باكمله ان المراة لايسلم منها رجل . ” والخطاب لها ولأمثالها من النساء إن كيدكن عظيم لأنه يعلق بالقلب ويؤثر في النفس” (53) ، وعن الزمخشري : ” عن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال للنساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.” (54) وقال اخر : (أيْ مِن جِنْسِ كَيْدِكُنَّ يا مَعْشَرَ النِّساءِ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ والكَيْدُ: المَكْرُ والحِيلَةُ.) (55) ، اما ابو حيان فقد ذهب الى ان علة الوصف هي : ” ووَصَفَ كَيْدَ النِّساءِ بِالعِظَمِ، وإنْ كانَ قَدْ يُوجَدُ في الرِّجالِ؛ لِأنَّهُنَّ ألْطَفُ كَيْدًا بِما جُبِلْنَ عَلَيْهِ وبِما تَفَرَّغْنَ لَهُ، واكْتَسَبَ بَعْضُهُنَّ مِن بَعْضٍ، وهُنَّ أنْفَذُ حِيلَةً ” (56). ومن ثم فان هذا النسق اعتمد اساسا منطق الاستخفاف والازدراء بشكل امتاح تصوراته من النموذج المرسوم للمراة في الاساطير والثقافة والديانات بضرب مختلف يشي بقيم مغلقة التفكير في التصور والتحليل والنظر.