النحو القرآني بين الحضور وعدمه
صفية كاظم محمد – طالبة دكتوراه في اللغة العربية/ اللغة
     إنّ الاستشهاد بالقرآن الكريم يسهل عملية فهم معاني الآيات الكريمة، ومعرفة أوامر الله تعالى ونواهيه وأحكامه، فضلًا عن الأجر في تلاوته، وقد تعرض الكثير من الباحثين لدراسة القرآن الكريم، ومن جوانب متعددة، وكل أدلى بدلوه في الجانب الذي طرقه في الدراسة. والقرآن الكريم هو الحجة البالغة، وهو أصدق مصدر في الوجود.
   القرآن الكريم كتاب الله العزيز، ومعجز رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ” لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” فصلت: 42، ونزل ” بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ” الشعراء: 195.
     هذه الحقائق الثلاث يدركها النحويون كلهم أتم إدراك، ويعتقدونها اعتقادًا قويًا بآية ما أنّهم مسلمون مؤمنون، غير أنّهم حين ينصرفون إلى النظر فيما يتأملونه من مسائل اللغة يذهلون عنها، وتشغلهم أقيستهم، وما تأصل لديهم من أحكام وقواعد عن تمثلها وذكرها.
يردُ في الذهن تساؤل فيما إذا كان القرآن الكريم هو المصدر الأول في تقعيد اللغة أم هو تالٍ لغيره، واختلف الدارسون المحدثون في الإجابة عن هذا التساؤل، وانقسموا على فريقين، الفريق الأول: يرى أنّ القرآن الكريم هو المصدر الأول في تقعيد قواعد النحو العربي ومنهم: د. عبد العال سالم مكرم في كتابه (القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية)، ود. خديجة الحديثي في كتابها (الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه).
 أمّ الفريق الثاني: يرى أنّ القرآن الكريم لم يكن المصدر الأول الذي اعتمده النحويون في تقعيد قواعد اللغة العربية، وكان اعتمادهم الأول على كلام العرب، ومنهم د. إبراهيم أنيس في كتابه (من أسرار العربية)، ود. عبد الخالق عضيمة في كتابه (دراسات الأسلوب القرآني).
ونرى أنّ الفريق الثاني كان مصيبًا في منحاه، وهذا ما نجده في أول كتاب وصل إلينا ألا وهو كتاب سيبويه الذي يُعدُّ عمود الدراسات النحوية، إذ اعتمد على كلام العرب من شعر وغيره، فقد ذكر عبارة (كلام العرب) اكثر من أربعين مرة في كتابه، مستشهدًا لكلامه بأنّه وقع في الغالب من كلام العرب، و هو كثير في كلام العرب، أو قليل في كلام العرب… الخ، فضلًا عن استشهاده بـألف وخمسون بيتًا من الشعر العربي، فيما استشهد بأربعمائة وستون شاهدًا قرآنيًا، وكان سيبويه مفسرًا لكلام العرب كما فسّر المفسرون كلام الله، إذ إنّ قيمة الكتاب تبرز في منهجه التفسيري.
 ولتقوية النحو العربي يجب اعتماد الشواهد القرآنية من الذكر الحكيم أولًا، ولأنّ الذكر الحكيم نزل بلسان عربي مبين يجب أن يكون أهم مصدر على الإطلاق، وعند استناد القواعد إلى النص القرآني لا تدخل التأويلات إليها كونها نص إلهي محكم، ويتحقق ذلك من خلال الاستقراء التام والحقيقي للنصوص الكريمة، لذا كان لزامًا على النحويين واللغويين أن يقعّدوا قواعد اللغة وينظموها وفق منهج القرآن الكريم، لأنّ السبب الأول والعامل البارز في تقعيد اللغة العربية هو الحفاظ على لغة القرآن الكريم من اللحن والفساد. ولأنّ كثيراً من قواعد النحو العربي لا تتوافق مع القرآن الكريم، وهـذا الأمر دفع بعضهم إلى تأويـل ما خالـف القاعـدة انتصاراً لها، ومنه دخول ربّ على الأفعال، إذ منع طائفة كبيرة من النحويين تعلق ربّ بالفعل المضارع، وقالوا بأنّها تدخل على الفعل الماضي فقط، والغريب أنّهم يذهبون إلى إلزام كون الفعل بعدها ماضيًا، على الرغم من ورودها في القرآن الكريم داخلة على المضارع، وهي ملحقة بـ (ما) في قوله تعالى: “ربّما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين” الحجر: 2.
ويقول أبو البركات ابن الانباري (ت 577ه) في سياق إعراب الآية “ولا يدخل بعد ربّما إلّا الفعل الماضي كما قال الشاعر:
ربّما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبي شمالات
وإنّما جاء ها هنا على سبيل الحكاية، ولهذا حمله أبو إسحاق الزجاج (ت 311ه) على ضمير (كان) على تقدير: ربّما كان يود الذين كفروا. فهم يردون الشاهد القرآني بالشاهد الشعري فهو عندهم دلالة قاطعة على دخول ربّ على الفعل الماضي، غير أنّ  الآية ليست دليلًا قاطعًا على دخولها على الفعل المضارع!، ولا يجعلونها معادلة له ليقضوا بإباحة الوجهين.
 ولا يعدو النحو القرآني المفترض إلّا أن يكون مطابقاً للنحو العربي بمعياريته؛ لما قامت عليه النظرية من مفهوم التشذيب والرفض، فالنحوان في الماهية شيء واحد ولكن النحو التقليدي يسعى إلى جعل الكلام الجديد موافقًا لحال كلام العرب في عصر الفصاحة، في حين يسعى النحو القرآني إلى أن يتوافق كل كلام العرب المنجز منه والذي سينجز مع استعمالات القرآن الكريم.
 

شارك هذا الموضوع: