طالب الدكتوراه: عقيل محمد صالح عبد الحسن/ التاريخ الاسلامي
مقالة بعنوان: النقود وأثرها في الاقتصاد عند العلامة ابن خلدون 
كان للمفكرين المسلمين دوراً بارزاً في تكوين الفكر الحديث والنظريات الحديثة في مختلف فروع العلم والمعرفة، إذ لم يقتصر اهتمام الفكر الإسلامي على الجوانب الطبيعية أو الرياضيات أو الطب بل شمل مختلف العلوم والمعارف ومنها الفلسفة والسياسة والآداب والاجتماع والاقتصاد .
ومن المؤسف ان نرى اغلب الدارسين في العصر الحالي عندما يتناولون قضايا الفكر الاقتصادي فانهم يبدؤون بتصورات ارسطو وافلاطون ومن ثم علماء الاقتصاد في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، متناسين ما وقع من مجهودات علمية لعلماء ومفكرين وضعوا القواعد والنظريات لمختلف العلوم ومنهم العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي خاض في مختلف العلوم الطبيعية والاجتماعية بل هو مؤسس علم الاجتماع وعلم التاريخ من خلال مقدمته التي حوت كنوز العلم والمعرفة .
وفي مجال علم الاقتصاد كان للعلامة ابن خلدون جهود طيبة خدمت العلم والمسيرة البشرية الاقتصادية من خلال آرائه حول العمل والقيمة وفائض القيمة والنقود والاسعار ومختلف الأنشطة كالزراعة والصناعة والتجارة ودور المجتمع والدولة في توجيه هذه الأنشطة بما يحقق مصلحة المجتمع .
 وفيما يتعلق بالنقود فقد كان لفقهاء المسلمين دوراً في بيان أهميتها في تنشيط التبادلات التجارية وتسهيل ودفع عجلة النمو الاقتصادي، وكان في مقدمة من تناول المعاملات الاقتصادية هو سيد البلغاء والمتكلمين الإمام علي() إذ يقول: “ ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ – وأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ”)(، وقال () في عهده لمالك الاشتر : “ ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ وأو صِ بِهِمْ خَيْراً – الْمُقِيمِ مِنْهُمْ والْمُضْطَرِبِ بِمَالِه والْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِه – فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ – وجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ والْمَطَارِحِ وحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا – ولَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا – فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُه – وصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُه – وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ”)(.
ومن الفقهاء المسلمين الذين تناولوا أهمية النقود ودورها في الحياة الاقتصادية الامام الغزالي وابن قيم الجوزي، إذ شدد الغزالي على أهمية النقود ودورها في عملية التبادل بقوله: ” من ‌نعم ‌الله ‌تعالى ‌خلق ‌الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر احتياجاته… فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار…”)(، ويشير ابن الجوزي الى ان الشارع المقدس حرم الربا في ستة اعيان اثنان منها الذهب والفضة كونهما اثماناً للمبيعات فيجب ان يكونا ثابتين لا يرتفعان ولا ينخفضان، بهما تُقوم الأشياء ولا يقومان بغيرهما، بل القصد بهما التوصل الى السلع فاذا صاروا في انفسهما سلعاً أُفسد أمر المسلمين”)( .
ويحدد ابن خلدون وظيفة النقود بقوله: “ ثمّ إنّ الله تعالى خلق الحجرين المعدنيّين من الذّهب والفضّة ‌قيمة ‌لكلّ ‌متموّل، وهما الذّخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنّما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق الّتي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذّخيرة”)(، وهنا أشار ابن خلدون الى وظائف النقود وهي انها مقياساً للأثمان(وظيفة ثمنية) بانها قيمة لكل متمول، والوظيفة الثانية انها أداة للادخار بقوله وهما الذخيرة، والثالثة ان النقود هي وسيلة للتبادل والاقتناء بقوله: (هما القنية لأهل العالم في الغالب) (هما أصل المكاسب والقنية والذّخيرة) . 
اما من حيث اعتبار النقود معياراً للقيم فان ذلك يتطلب النظر في النقود المتعامل بها بين الناس وحمايتها من الغش، وعندما يتفق الافراد على قيمة معينة لهذه النقود فانهم يبلونها ويكونون ” وقفوا عندها وسمّوها إماماً وعياراً ‌يعتبرون ‌به ‌نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفاً”)(، ولاستخدام النقود كمخزن قيمة فقد استخدم في صناعتهما معدني الذهب والفضة لان قيمتهما ثابتة ولا تتغير بتغير الاسواق .
وقد فرق ابن خلدون بين القيمة النقدية وتحقيق الثروات إذ أوضح ان الثروات التي تمتلكها وتحققها الدولة لا تقاس بالضرورة بكمية النقود التي نمتلكها الدولة، بل ان ثروات الدولة تتحد بما تنتجه الدولة من سلع وخدمات وما يتحقق من فائض فيما تدفعه الدولة من أموال أورد ابن خلدون: “اعلم ‌أنّ ‌الأموال ‌من ‌الذّهب والفضّة والجواهر والأمتعة إنّما هي معادن ومكاسب مثل الحديد والنّحاس والرّصاص وسائر العقارات والمعادن، والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانيّة ويزيد فيها أو ينقصها وما يوجد منها بأيدي النّاس فهو متناقل متوارث وربّما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى أخرى بحسب أغراضه” . )(
كما اكد ابن خلدون ان ثروات الأمم والشعوب لا تقدر بكمية النقود التي تمتلكها ولا بكمية معادن الذهب والفضة وغيرها من الثروات الطبيعية في ارضها وانما تكمن ثرواتها في كمية الإنتاج، وان الثروات الحقيقية لأي دولة من الدول هي بما تحققه من ازدهار وتقدم اقتصادي وكثرة الاعمال والعمران، إذ يذكر ابن خلدون ان الناس قد يسمعون ان بعض الأقطار مثل الشام ومصر وغيرها قد بلغت من الترف والغنى ما يفوق الوصف ويعتقدون ان ذلك بسبب كثرة أموالهم أو لأن المعادن الطبيعية موجودة بكثرة في بلادهم، والسبب غير ذلك إذ ان السبب الحقيقي لهذا الترف والغنى هو كثرة العمران واختصاصه بارض المشرق واقطاره . )(
وهنا لابد من الإشارة الى ان علماء الاقتصاد في العصر الحديث وفي مقدمتهم أصحاب المدرسة التقليدية وعلى رأسهم العالم ادم سميث اكدوا ما ذهب اليه العلامة ابن خلدون، إذ يرى سميث ان ثروات الدول تتمثل فيما تنتجه هذه الدولة من سلع استهلاكية واستثمارية وقدرة هذه الدولة على زيادة انتاجها من هذه السلع، وان النقود هي ليست ثروة بحد ذاتها فلا يمكن قياس الثروات بالنقود، وعللوا سبب ذلك ان النقود تتغير قيمتها أو قوتها الشرائية باختلاف الازمان والأماكن وبهذا لا يمكن اعتماد النقود لقياس الثروات الحقيقية للدول ومدى التغييرات التي تطرأ عليها خلال عملية النمو الاقتصادي . )(
 

شارك هذا الموضوع: