عنوان المقالة  بغداد في سرد غائب طعمة فرمان: بين الحنين والتجسيد الروائي 
رؤى يعقوب لفتة
 
المكان الأليف هو ذلك الذي يمنح شعورًا بالراحة والأمان، ويتحدد وفقًا لإحساس الشخصية به؛ فإما أن يكون مألوفًا دافئًا، أو معاديًا موحشًا. يقترن هذا المكان بالإحساس بالحماية من التهديدات الخارجية، ويوفر مساحة للحلم واسترجاع الذكريات. وقد جعل غائب طعمة فرمان مدينة بغداد المحور الأساسي في جميع رواياته، رغم اغترابه عنها لسنوات طويلة، إذ بقيت حاضرة في وجدانه وذاكرته، مستحضرًا إياها عبر الخيال، مما منحها بعدًا دلاليًا أعمق من كونها مجرد مساحة جغرافية.
الإحساس بالمكان، ولا سيما المكان الواقعي، يعدّ شعورًا أصيلًا ومتجذرًا في النفس البشرية، خاصة إذا كان هذا المكان يمثل الوطن، ويرتبط بذكريات الطفولة والشباب. ويتضاعف هذا الشعور عند فقدان المكان أو الابتعاد عنه، حيث يصبح أكثر وضوحًا وتجليًا في أعمال الأدباء الذين يكتبون عن أوطانهم من المنفى. لذا، فإن بغداد تبقى راسخة في ذاكرة شخصيات غائب طعمة فرمان، حيث استخدم المكان لتوثيق الأحداث التاريخية المهمة التي شهدها الشعب العراقي، وأدرك مدى تأثيره في حياة الناس، وانعكاسه على مشاعرهم وسلوكياتهم.
 
وظّف فرمان المكان بطريقة تفاعلية، إذ لا تظهر الأماكن في رواياته إلا عندما تعبرها الشخصيات أو ترتبط بحدث ما. وقد جاء وصف الأمكنة محمّلًا بدلالات اجتماعية وثقافية، تعكس طبيعة الشخصيات وطبائعها وأمزجتها. هناك اتجاه نقدي يرى أن المكان والشخصية متطابقان، حيث يصبح البيت امتدادًا لصاحبه، فإذا وُصف البيت، فإن ذلك يعكس طبيعة ساكنيه. وغالبًا ما يجعل السارد المكان بمثابة شخصية فاعلة، تنقل للقارئ تفاصيل الواقع الاجتماعي والطبقي دون تصريح مباشر، بل من خلال الأوصاف والسياقات السردية.
 
في روايات فرمان، يبدو المكان أشبه بمرآة تنقل الواقع الاجتماعي والتغيرات التي طرأت عليه. في رواية المخاض، على سبيل المثال، يرسم الراوي ملامح بغداد من خلال شخصية كريم، الذي يصف مشاهد المدينة قائلاً:
 
“رأيت السدة تجري عليها السيارات وكوكبة من الخيالة تصورتها عائدة إلى معسكر الوشاش… وإلى اليسار قليلاً محطة بغداد ذات القبة الزرقاء، محطة فكتوريا المشوهة كما كانوا يسمونها… وخلف المحطة، هناك وراء الخط الحديدي القادم عبر جسر الرصافة، لابد أن ساحة السكك قائمة على عهدها يحرسها الثوران المجنحان على بوابة المتحف الجديد…”
 
يتجلى في هذا الوصف المزج بين المكان الواقعي والمكان المتخيَّل، حيث لا يكون المكان في الرواية مجرد انعكاس مادي، بل يُعاد تشكيله وفق رؤية الكاتب وأهدافه الفنية، ليصبح عنصرًا جوهريًا في البناء الروائي.
 
رغم اغترابه عن بغداد لسنوات طويلة، بقيت المدينة محورًا ثابتًا في أعمال فرمان، باستثناء روايته الأخيرة المرتجى والمؤجل، التي تناولت هموم المغتربين، وإن ظلت بغداد حاضرة في ذكريات شخصياتها. فقد صوّر بغداد في مختلف المراحل الزمنية، بدءًا من معاناة الطبقة الفقيرة تحت الاحتلال البريطاني في النخلة والجيران، وصولًا إلى التغيرات العمرانية والاجتماعية كما في المخاض، مرورًا بالصراعات السياسية والثقافية كما في خمسة أصوات والقربان.
 
في النخلة والجيران، يصبح المكان كائنًا حيًّا يعكس سمات ساكنيه، حيث تدور أحداث الرواية في حي شعبي فقير بمنطقة المربعة، أطلق عليه الراوي اسم الصافن. بيوت طينية متداعية، أزقة ضيقة، مياه آسنة، ومع ذلك، فهو مكان نابض بالحياة، يحتضن شخصيات بسيطة كـ سليمة الخبازة، وصاحب أبو البايسكلات، وحمادي العربنجي، وغيرهم ممن يتشاركون هموم الحياة اليومية.
 
يظهر ارتباط المكان بالشخصيات جليًا في مشهد وصف بيت سليمة الخبازة، حيث تشعر سليمة بالأمان وسط بيتها العتيق، رغم وحدتها:
 
“رأت أمامها نخلتها القميئة تبرك قرب الحائط، وسط دائرة سوداء، نخلة مهجورة عاقر مثلها تعيش معها في هذا البيت الكبير، خرساء صماء، تتحمل المياه القذرة التي تلقى في حوضها، ويمر الصيف والشتاء دون أن تحمل طلعًا، أو تخضر لها سعفة.”
 
هذا الوصف يرمز إلى عقم الحياة في هذا البيت، الذي يعكس بدوره حياة سليمة ونخلتها العقيمة. ومع ذلك، يبقى المكان مألوفًا بالنسبة لها، وتشعر بالغربة عند مغادرته إلى بغداد الواسعة.
 
يمنح المكان الشخصيات الإحساس بالانتماء والهوية، حتى بعد الابتعاد عنه. في لحظة حنين، نجد حسين في النخلة والجيران، بعد أن هجرته تماضر، يسترجع ذكرياته مع بيته ومحلته:
 
“اشتاق إلى بيته في حي الصافن، هناك آمن وأدفأ. وبغصة مسحوقة، فكر مع نفسه أنه لم ينام أبدًا في تلك الحجرة بعد الآن، لم ير النخلة القميئة، ولم يغتسل قربها…”
 
أما مرهون السايس، فقد كان أشد الشخصيات ارتباطًا بمكانه الطولة، حيث أمضى عشرين عامًا من حياته، وكان يشعر أنها جزء منه. يظهر ذلك في حواره مع حمادي العربنجي عندما يرفض تقبل فكرة بيع الطولة، وكأنها ليست مجرد مكان، بل كيان حيٌّ يشاركه عمره وهمومه.
 
رؤى يعقوب, [01/01/2011 12:49 ص]
في المقابل، تمثل بعض الأماكن في الرواية فضاءات هامشية، بعيدًا عن مركز المدينة، مثل حي الصافن، الذي يستغله مصطفى في أعماله المشبوهة، نظرًا لكونه مكانًا آمنًا بعيدًا عن أنظار السلطات. وهذا يبرز مفهوم المكان الرمادي، حيث يصبح ملاذًا لمن يمارسون أنشطة غير قانونية في ظل انشغال الناس بلقمة العيش.
 
تكشف رواية النخلة والجيران عن تجربة معيشية قبل أن تكون تجربة لغوية، إذ تعكس حياة الأحياء الشعبية التي نشأ فيها فرمان. عبر تفاصيل المكان، نجده يعيد تشكيل بغداد الشعبية، حيث الأزقة الضيقة، والأحاديث المتبادلة بين الجيران، وروائح الماضي العابقة في كل زاوية. هذه الأحياء، رغم بساطتها، كانت تمثل مجتمعًا متماسكًا، قائمًا على قيم التآلف والمحبة. كما في وصف الراوي:
 
“كان الأطفال يلعبون قرب بركة من الماء الآسن، وفتحية بائعة الباقلاء تفترش الأرض وحولها زبائنها، وعلى مقربة من الطولة حلقة من العباءات السود.”
 
بهذا، تصبح الأماكن في روايات غائب طعمة فرمان أكثر من مجرد خلفية للأحداث؛ إنها شخصيات بحد ذاتها، تعكس نبض الحياة، وتجسد أبعاد الهوية والانتماء، وتحفظ ذاكرة المدينة وسكانها.

شارك هذا الموضوع: