بلاغة الاستعارة في المنظور البلاغي والنقدي عند العرب
أ.م.د. فلاح عبد علي سركال
جامعة كربلاء/ كلية التربية/ قسم اللغة العربية
أولى علماؤنا العرب موضوع الاستعارة عناية فائقة، وأفاضوا الحديث عنها ؛ لأنّها من الفنون البلاغيّة ذات البُعد الجمالي ، فهي تعتمد على التفاعل التام بين طرفيها ، حتى يمكن أنْ ينوب أحدهما عن الآخر، ولعل الجاحظ (ت255ه) أول من عرّف الاستعارة بقوله : (( الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا أقام مقامه )).
كما عرض ابن قتيبة (ت276ه) لموضوع الاستعارة ووضع فروقاً بينها وبين المجاز، فالمجاز عنده أعمّ من الاستعارة ، إذ قال: (( العرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمّى بها بسبب من الأخرى، أو مجاوراً ، أو مشاكلاً فيقولون للنبات نوء ؛ لأنه لا يكون عن النوء عندهم))، أمّا الرمانيّ(ت386ه) فيرى الاستعارة (( تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة )) ، ويقترب أبو هلال العسكري(ت395ه) من تعريف الرماني بقوله : (( الاستعارة نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض)).
ولعل عبد القاهر الجرجاني(ت474ه) يُعدُّ أبرز البلاغيّين الذين نظروا إلى الاستعارة بعمق وفهم دقيق، إذ قال: (( الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء وتظهره وتجيء إلى اسم المشبّه به فَتُعِيرُه المشبه وتجريه عليه)).
كذلك ربط الاستعارة بالتشبيه ربط الجزء بالكل ، فجعل التشبيه كلاًّ والاستعارة جزءاً منه ، أو لنقُل جعل التشبيه أصلاً والاستعارة فرعاً فقال: (( والتشبيه كالأصل في الاستعارة ، وهي شبيهة بالفرع له أو صورة مقتضبة من صورة )).
أما الدراسات الحديثة فقد تصدّت هي الأخرى لمفهوم الاستعارة ، فمثلاً يتحدّث في هذا الشأن محمد الهادي الطرابلسي فيقول: (( الاستعارة عند العرب أسلوب من الكلام يكون في اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في الأصل لعلاقة مشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وهي لا تزيد عن التشبيه إلّا بحذف المستعار له فهي ضرب من التشبيه حُذِفَ أحد طرَفيه الرئيسيين، والعلاقة فيها بين الموصوف وصورته هي التشابه دائماً، غير أنه تشابه كالتحام، وتقارب كانسجام؛ لأنّه مفض لإفناء أحد الطرفين في الآخر ولذلك كانت الاستعارة عندهم من قبيل المجاز)).
فالرؤية الحديثة لموضوع الاستعارة قامت في الأساس على تأكيد الجانب الانفعالي فيها ، لذلك يقول ريتشاردز: (( إنّ الاستعارة شيء خاص واستثنائي في الاستعمال اللغوي ، وأنّها انحراف عن اللفظ الاعتيادي للاستعمال)).
وعلى ذلك تمثل الاستعارة (( انتقال في الدلالة لأغراض مُحدّدة وأنّ هذا الانتقال لا يَصُحّ ولا يتمّ إلّا إذا قام على علاقة عقلية صائبة تربط بين الأطراف وتُسيّر عملية الانتقال من ظاهر الاستعارة إلى حقيقتها وأصلها )).
وهي في ضوء هذا الفهم اختيار معجميّ تقترن بمقتضاه كلمتان في مركّب لفظي اقتراناً دلالياً ينطوي على تعارض- أو عدم انسجام – منطقي، ويتولد عنه بالضرورة مفارقة دلالية تثير لدى المتلقي شعوراً بالدهشة والطرافة، وتكمن علّة الدهشة والطرافة فيما تحدثه المفارقة الدلالية من مفاجأة للمتلقي بمخالفتها الاختيار المنطقي المتوقع.
ولما كانت الاستعارة تمثل نسقاً ثقافياً في الدراسات الحديثة؛ لكونها تقوم على مبدأ الإيجاز فقد أغرت الدراسة الجماليّة على اعتمادها بوصفها تحقّق الاقتصاد اللغوي في المنجز الشعري؛ لأنّ الجماليّة العربية صار من مهماتها صنع أوجه للتعبير الأدبيّ عن طريق شكل التعبير الذي يقوم على أسلوب إيجازي استعاري.
إذن فالسر في جمال الاستعارة في كلام العرب يكمن في حسن تصويرها وإيضاحها للمعنى من ناحية، وإيجازها في اختيار ألفاظها وحسن تركيبها ومراعاة حسن تشبيهها الذي بنيت عليه من ناحية أخرى، لتأتي موحية في جعل السامع أو القارئ يحسّ بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه كما أنّها تصوّر المعنى كالمنظر للعين، والصوت للأذن وتجعل الأمر المعنويّ ملموساً محسوساً قريب الدلالة.
فضلاً عن ذلك أنَّ الاستعارة تفيد شرح المعنى ، وتفعل بالنفس ما لا تفعله الحقيقة ، وتفيد تأكيد المعنى والمبالغة فيه ، والإيجاز ، وتحسين المعنى وإبرازه ، ثمَّ هي إلى جانب ذلك كلّه طريق للتوليد والتجديد ؛ لأنها تكشف عن صورٍ جديدة ومعانٍ بديعة تأخذ بمجامع القلوب.
فالاستعارة إذن تُبنى على جمال الصورة واختزال التعبير لكونها (( أحد أعمدة الكلام ، وعليها المعول في التوسع والتَّصرُّف ، وبها يُتوصّل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر)).
أمّا الصورة الاستعارية فهي ما ترسمه مُخيّلة الأديب باستعمال الألفاظ، والاستعارة تُمثّل مجموعة من الوسائل التعبيريّة التي تنجم عنها قيمٌ فنيّة تنبّه المشاعر، وتوقظ الوجدان، وتلفت نظر المُتلقّي إلى المعنى فيتفاعل معه.
والصُّورة وسيلة الأديب في نقلِ أفكارهِ وأحاسيسهِ ، وتجربتهِ الشعريّة إلى المُتلقّي عن طريق اللغة، فهي سمة من السمات المهمّة في العمل الأدبي ، وإحدى المقومات الأساسيّة في بناء القصيدة العربيّة ، ويندر أنْ يخلو عمل شعريّ من التّصوير أيّاً كان نوعه ، والقدرة على رسم الصورة هي بلا شك أجمل وأكمل في الظهور من التعبير عن الفكرة بطريقة مُجرَّدة ، فأهميّتها تكمن في تقديم المعنى إلى المُتلقّي بطريقة جميلة تثير انفعالاته إثارة خاصّة وتدفعه إلى سلوك معيّن.
ومما تقدم يمكن أن تُعد الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه ؛ المشبّه أو المشبّه به ، ويمكن من ذلك أن نتبيّن نوعين رئيسين من أنواع الاستعارة وهما الاستعارة التصريحيّة وفيها يحذف المشبّه ويُصرّح بالمشبّه بهِ ، والاستعارة المكنية وفيها يُذكر المشبّه ويُحذف المشبّه به ويُكنّى عنه بصفة من صفاته .