بلورة النحو العربي ونشأته:
أ.د جاسم عبد الواحد
كانت العربية الشائعة على ألسنة القبائل العربية في شكل لغات أو لهجات, وبسبب عوامل َب للغة قريش أنُكتدينية تتعلق بوجود الكعبة في قريش وعوامل اقتصادية تتعلق بالتجارة تسيطر على سائر اللهجات العربية األخرى, ويصبح اللسان القرشي هو المعتمد في الجزيرة العربية كلها.
كانت اللهجات العربية قبل الفترة اإلسالمية ذات تنوع واختالف في المفردات واألساليب والتراكيب. مع ذلك, كان هناك لهجة موحدة تستخدم في كتابة القصائد والعهود والمواثيق )فمن يقرأ معلقة عنترة بن شداد العبسي اليجد صعوبة في فهمها أو ال يصعب في كتابتها وقد كتبت قبل 1500 سنة تقريبا (. واستمرت اللهجة الموحدة بعد ظهور اإلسالم وهي اللهجة التي نزل بها القران الكريم )اللغة الموحدة تعرف باللغة المشتركة إذ عرفت عند بعض الدارسين العرب القدماء والباحثين المحدثين بلهجة قريش(. وكان هناك لهجات عديدة قد تمثلت باللغة العربية المشتركة منها لهجة تميم و أسد وقيس وبكر وتغلب ومذحج وقبائل اليمن. مع ذلك فهم يستطيعون التفاهم فيما بينهم بسهولة لكن يصعب قراءتها.
وبعد انتشار اإلسالم واتساع رقعة الدولة االسالمية على مِّر الزمن مَّكن لالعاجم المسلمين من أن يكونوا من المستعملين للغة العرب بوصفها لغة االسالم, وهذا الذي ادى الى شيوع اللحن على األلسن. فغير العرب لم يكونوا يتقنون العربية وأسرارها, ولم يقتصر األمر على انتشاره في لغة التخاطب بل تعداه إلى اللحن في قراءة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف, َن أمام رسول اهلل )صلى اهلل عليه وآله وسلم(, فقال )صلى اهلل عليه وآلهّ رجال لحأنّوقد روي
)1(
. واستمر تفشي اللحن في عهد الخلفاء الراشدين؛ فقد ورد
وسلم( لصحابته: )أرِشدوا أخاكم(
)2( عن الخليفة أبي بكر قوله: )ألن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن( ,
)1(
النحو والنحاة: المدارس والخصائص. خضير حمود, بيروت – لبنان : عالم الكتب, صفحة ,12 ,15-14 18-17 . )2(
معجم األدباء “الفصل األول فضل األدب” ج١ ص,٨٢ واألثر المذكور نسب للشعبي.
و هناك روايات عديدة تتحدث عن أخطاء غير العرب في استعمال العربية وكيف كانت بداية د عثمان( في مقدمة تحقيقه لكتابّاتخاذ ق ارر وضع علم النحو منها: ما ذكره )محمد السي
ّماميني على مغني اللبيب( أذ ينقل أنه:)شرح الد
ولِهِ ذات يوم على رجل وهو يقرأ
َُسرَهِ وَّاللَِّمنٌَذانأََقوله تعالى: ﴿و
)3(
ّؤليأبو األسود الدّ)مر
َينْشِركُِْمالَِّمنٌِريءَبَهَِّر أَ َّن اللَْكبْألَِّج اَْحالَمَْوَى الَّنا ِس يل
؛ فاشتعلت في رأسه
ۙ ﴾ إِ
)4(
ُُهولَُسرَو
شارة الخطر عندما سمع الرجل يق أر ]”ورسولِه” بالجر[ بينما هي بالرفع, والجر يقلب المعنى ل الم ارد عن مساره, فمعنى “ورسولِه” بالجر كما ق أرها الرجل أن اهلل تعالى بريء منّويحو
المشركين وبريء من رسوله أيضا, وهذا ما يؤديه العطف بالجر, بينما اللفظ في اآلية مرفوع ُه أيضا بريء من المشركين.من المشركين ورسولٌعلى االبتداء, وتقديره ومعناه: أن اهلل بريء
ّدؤلي أن األمر جلل فانطلق إلى علي بن أبي طالب )َش أبو األسود العر عليه السالم ( ليخبره أن اللسان العربي في خطر وأن التدخل واجب من أعلى سلطة في الدولة لتدارك األمر؛
فتناول علي )عليه السالم( صحيفة وكتب عليها: بسم اهلل الرحمن الرحيم, الكالم اسم وفعل وحرف, االسم ا
ّما أنبأ عن المسمى, والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى, والحرف ما أنبأ عم ُ هذا النحو”؛ فمن هنا جاءت تسمية علمهو ليس اسما وال فعال. ثم قال ألبي األسود: “انح
.
)5( النحو(
هذه إحدى أشهر الروايات في نشأة علم النحو, بينما يذكر الذهبي في )سير أعالم النبالء(
ناقال ضعت له أبواب النحو أ َّن ابنة أبي األسود قالتُبب الذي وّأنه قال: إ َّن “السّعن المازني بالرمضاء, قالت: إنما تعجبت من شدته. فقال:ُد الحِّر؟)بالضم(. فقال: الحصباءله: ما أشُّ
( فأعطاه اصوال أو عليه السالم بنى منها, وعمل بعده َد لحن الناس! فأخبر بذلك عليا )قَ
.
)6( عليها”
)3(
أبو األسود ظالم بن عمرو بن ظالم . وقيل : جده سفيان . ويقال : هو عثمان بن عمرو , ويقال : عمرو بن ظالم , وأنه ولي قضاء البصرة
زمن عليبن ابي طالب .
)4(
التوبة.3:
)5(
شرح الدماميني على مغني اللبيب المؤلف: محمد بن أبي بكر الدماميني )المتوفى: 827 هـ( الناشر: مؤسسة التاريخ العربي الطبعة: األولى,
1428 ه – 2007 م/ المقدمة.
سير أعالم النبالء. شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.82/4:
)6(
كما يذكر الذهبي أيضا أنه: )جاء أبو األسود إلى زياد فقال: أرى العرب قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم, أفتأذن لي أن أضع للعرب كالما يقيمون به كالمهم؟ قال: ال. قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح اهلل األمير, توفي أبانا وترك بنون, فقال: ادع لي أبا األسو د؛
.
)7(
ُعي فقال: ضع للناس الذي نهيتك عنهفد (
إ َّن هذه الروايات تدل على أمور عدة يجدر االنتباه إليها:
اوال: ان اللغة العربية لم تكن لها قواعد قبل تفشي اللحن بعد دخول غير العرب الى االسالم وظهور اللحن, لهذا فإن استخدامها ووجودها سابق لوضع قواعدها.
ثانيا: تشخيص مشكلة اللحن في العربية واالنحراف عن السليقة العربية, والشعور بفداحة اللحن فيها, وقد كان أبو األسود الدؤلي )69هـ( المشهور بفصاحته وسالمة لسانه, يقول ََمير ارئحة( كغُّار )تغََغمإني ألجد للحن
واصفا شعوره حين يسمع أي لحن في اللغة: ) ر
.
)8( اللحم(
ثالث هذه الروايات تؤكد على المسارعة بوضع اجراء من شأنه القيام بإعادة ضبط ا: إن
اللسان العربية وعصمته من الوقوع باللحن الذي يقع بسبب مخالطة األعاجم.
ّم لغة القرآن الكريم حاجة ضرورية وملحة من أجل أن يتمكن هؤالء من ق ارءةلقد أضحى تعل
ّ آياته, وفهم مفرداته ومعانيه وأحكامه, ة,
فعكف المسلمون على تعليم هذه الشعوب اللغة العربي
ُعقد في المسجد الجامع, وسوق المربد التي كانواستعانوا على ذلك بالجلسات التي كانت ت
يأتي إليه الشعراء والخطباء العرب القادمين من البادية من أصحاب اللغة الفصيحة؛ مما ّة, وأعان العلماء على تفسير اآليات القرآني توضيح الغريب من ألفاظها ومعانيها, وكان لهذه ّعث ارء مفرداتها ومعانيها, كما ساهمت في تتب المجالس األثر الكبير في جمع اللغة العربية وا ّة لهذه اللغة ومقارنتها بالق ارءات التي جاء بها القرآنّة والصرفيّة والنحويالظواهر الصوتي
. نشأ علم النحو في بداية األمر بسيطا شأنه شأن العلوم األخرى, وقد القى )9 ( الكريم
)7(
سير أعالم النبالء. شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.82/4: )8(
أخبار النحويين البصريين: .14
)9(
المستدرك – الحاكم النيسابوري – ج ٢ – الصفحة ٤٣٩
ّب آفة اللحن التي أصابتاستحسانا لدى الناس, فأقبلوا على د ارسته واالستفادة منه لتجن
ألسنتهم .
كانت نشأة علم النحو قائمة على ال َّسماع بالدرجة األولى, وتناقلوا ما اتفقوا عليه واستنبطوه فيما بينهم, حتى وصلوا إلى مرحلة أبعد نضجا فبدأت النقاشات فيما بينهم واختلفت اآلراء وانقسم علماء النحو إلى مدارس مختلفة؛ ونعني بالمدرسة النحوية مجموعة من النحويين الذين
اتفقوا على أصول محددة لقواعد اللغة متكئين بذلك على ما جاءهم من العرب سماعا , وعلى ما ارتأوا صحته بالقياس واالجتهاد, فالتزموا بما رضوه من قواعد ولم يقبلوا بغيرها.
تين وكانت مدرسة البصرةّوكانت أشهر المدارس النحوية مدرستي البصرة والكوفة النحوي
األسبق ظهو ار ؛ تبعا لطبيعة المدينة أذ كانت تأتيها الوفود من مختلف اآللسنة والثقافات. وللحفاظ على اللسان العربي من التحريف والضياع نشأت حركة نحوية داعية لتحديد قواعد اللغة العربية لكي يتم استعمالها بدقة وسالمة وسهولة مع الحفاظ على أصالتها وصونها من أي لحن أو تحريف.
ومن أشهر علماء النحو في البصرة أبو عمرو بن العالء )154هـ(, والخليل بن أحمد هـ(, ويونس بن حبي 182هـ(, وغير هم. وكان ما وضعه أبو األسود الدؤلي
َب الفراهيدي )175 )
من أبواب وقواعد أساس النحو البصري حتى ظهور سيبويه عام 180هـ صاحب أهم كتاب في علم النحو, واسمه )الكتاب(.
أما مدرسة الكوفة التي ظهرت بعد المدرسة البصرية فقد كانت تركز على القراءات القرآنية أكثر من أي شيء آخر. ومن أهم وأشهر َّارء )َأعالم الَّنحو في الكوفة معاذ اله 187هـ( واضع فن التصريف, والكسائي )189هـ( الذي يعرف بأنه إمام نحاة الكوفة, والفَّارء )207هـ(, وثعلب )291هـ(.
يو البصرة مع نحوِّيي الكوفة في ضبط بعض قواعد اللغة ودقائقها, ولعل أهمُّلم يتفق نحو
ّ الفروق بينهما ما كان في ون تشَّددوا فيما اشترطوه لقبول الروايةقبول الشاهد اللغوي؛ فالبصري
ّص, فلم يأخذوا عن أهل الحضر, ولم يقبلواوالشاهد, ولم يقبلوا إال ما جاء عن العرب الخل
عرف قائله, وتخَّيروا من القبائل, فلم يقبلوا إال التي يثقون بشعرها وأصالتهاُبيتا شعريا لم ي
اللغوية كقبيلة قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين, في حين كان الكوفيون .ّ في مسألة الرواية وقبول الشاهد اللغويأقل تشددا