بواكير كتابة القصيدة الحرة في كربلاء بين القبول والرفض
د,ميس هيبت
لمع نجم شعراء أسهموا في حركة الشعر الحر ،وحملوا لواء التجديد في القصيدة العمودية من حيث الأسلوب والتحرر من الأفكار القديمة ، وكان رواد هذه الحركة هم: “صالح جواد ال طعمة ، “والدكتور زكي الصراف “، “وعباس أبو الطوس” ،فالتجديد سار على قدمين اثنين أولها في الشكل والآخر في المضمون ، ولذا فقد استجدت موضوعات وأغراضٌ شعرية لم نكن نعهدها من ذي قبل “ومن أشهر من أسهموا في التجديد الشاعر الكربلائي “صالح جواد الطعمة ، فعبد المجيد الوندي يرى في شعره مزيجا محببا من التجديد والكلاسيكة فهو ينظم “شعرا جديدا ،التحمت فيه خيوط الكلاسيكية باتجاهات الأدب الحديث إنَّ كربلاء لم تكن خارج خارطة التأثر بحركية الإبداع في العراق وبغداد على وجه الخصوص لذا فقد تأثر شعراء كربلاء بموجة الشعر الحديث التي كان روادها الأوائل: السياب ونازك والبياتي، ونسجوا قصائدهم على خطى هؤلاء الرواد .
فشاعت في الوسط الأدبي الكربلائي آنذاك دعواتُ التجديد على الرغم من أنَّ هذه الدعوات كانت خجولة ولم يكن صوتها صادحاً ،”فعباس أبو الطوس” يرى أنَّه ” لا بأس من أن تكون القافية متنوعة في هيكل القصيدة “، لكنه ضد ترك القافية بصورة مطلقة” ففي تركها ينعدم النغمُ الموسيقيُ الجميلُ ويفقد الشعرُ عواملَهُ المؤثرةَ على العاطفةِ والإحساس”فهذا الرأيُّ ينبع من ذائقته الفنية وتمسكه بالتراث وخوفه عليه من الضياع ، فاعتراضه يبدو بحسب قوله على حرصا على مسخ القصيدة والعمود الشعري.علما أنَّ الشعر الحر قد ولد من رحم القصيدة العمودية ولم يخرج عن عباءة الخليل ، لذلك كانت القصيدة الحرة أكثر تقبلا من قبل الشاعر فاستساغها ونظم عليها،كما انه من أكثر الشعراء وعيا بضرورة انفتاح الشاعر على الآداب الغربية ويبدو ذلك جليّاً في القافية ، قال متحدثا عن القافية إنَّ”التخلي عنها وإهمالها يعد نقصا كبيرا” . هذا يدل على ثقافة ووعي عنده ولا نغفل أمراً قد ساهم على ولادة الشعر الحر وعاملاً مساعدة في إنضاجها فنياً ومضمونياً كذلك يتلخص في الإطلاع على الآداب الغربية من لدن السياب ونازك والبياتي وغيرهم، فقد درسوا اللغة الانكليزية واطلعوا على تجارب الشعر الغربي واراء نقاده فأفادوا منها في رؤاهم وفي تجاربهم الشعرية ، ليس في السمات الفنية فحسب بل حتى في الموضوعات .
في مقابل هذه الحركة كان ثمة أصوات كربلائية تدعو إلى الحذر من هذه الظاهرة ونبذها قال مشكور الأسدي:”ما يسمى اعتباطا بالشعر الحر ليس شعرا وإنما هو كلام مسطور يمكن وصف بعضه بأنَّه نثر بالمعنى لهذه اللفظ ؛ لأنَّ الشعرَ هو الكلام الموزون المقفى ليس إلاّ ، ومن قال غير ذلك فإنما يماري ويخرج عن الجادة الأدبية …هذا إذ لم يكن ممن يبغون تخريب ديوان العرب فيلبسون لباس الحرية والتجديد،وقال في موضع آخر “فالشعر هو الكلام الذي نعرفه موزونا مقفى إذا خلا الكلام من هذه الصفة لم يكن شعرا وإن جاء بالمعاني الرائعة والتعابير البارعة “، ونرصدُ رأياً مشابهاً في كتاب صادق ال طعمة في حديثه عن الشعر العمودي بأنّه “أقوى إمكانية في تصوير الحياة العامة ،وأعظم قدرة على مواجهة المشاكل وقضايا المجتمع والإنسانية وأجدر بالبقاء والخلود في ظل الحياة” ،ومن الجدير بالقول أنَّ حركة الرفض في الوسط الأدبي الكربلائي قد امتدت حتى أواخر سبعينات القرن المنصرم ، فيروي الدكتور سلمان هادي ال طعمة قصة لإحداث جرت في الطريق إلى مؤتمر لنقابة المعلمين في الكوت، إذ حدثت مشادة كلامية قوية بين الشاعر عدنان حمدان والشاعر محمد علي الخفاجي وكان الأخير قد أولع بالكتابة على الطريقة الحرة فيما كان الشاعر عدنان حمدان يمثل الاتجاه السلفي في الشعر الرافض لكل تجديد ، الذي يرى بأنَّ الشعرَ الحر خرقا وإساءة لتراث الأجداد،وكانت هذه المشادة قوية إلى درجة رفض الشاعران النزول في الفندق ذاته ولعل مثل هذه الآراء والمواقف الحادة والمتنافرة في الرأي والموقف هي نتيجة طبيعية للحياة في بيئة محافظة يكون فيها التحديث مخاطرة فمزاولو النظم على الطريقة العمودية يرون أنَّ “الانعتاق من ربقة التقليد ومن المحاكاة ثم الاتجاه إلى الإبداع والابتكار والتنويع جريمة على الأدب لا تغتفر”، لقد كانت هذه الأصوات المضادة للشعر الحر جزءاً من أصوات عربية أخرى أو صدى لها كانت تدعو إلى مقاطعة الشعر الجديد يتحدث الشاعر الكربلائي الدكتور سلمان هادي الطعمة عن تجربته في كتابة الشعر الحر في أواسط الخمسينات قائلا ” فقد سبق لي أن كتبت قصيدة نظمتها على طريقة الشعر الحر بعنوان ـ “انطلاقة” بعثتها أي مجلة الرسالة الحديدة ـالبغدادية الصادرة 1954 فلم تر النور واعتذر المحرر عن نشرها بقوله ” من السيد سلمان هادي ال طعمة ـ كربلاءـ قصيدة على طريقة (الشعر الحر) بعنوان (انطلاقة )ونحن نعتذر عن نشرها راجين منها العدول عن النظم على هذه الطريقة ؛لأنَّ معالمها لم تتوضح بعد وما زال أصحاب الدعوة إليها في حيرة من أسسها “
هذه الاعتراضات التي رافقت القصيدة الحرة لاسيما مع الرافضين لها والمقللين من شأنها لم تؤثر على استمراها وتطورها في الوسط الأدبي بمدينة كربلاء ، إذ استطاعت أن ترضي ذوق شعراء المدينة ومنهم أبي الطوس مهدي جاسم وزكي الصراف فنظموا قصائد حرة غير آبهين بالأصوات المتعالية والرافضة ،وكانت الظاهرة جلية عند صالح جواد الطعمة فهو أكثرهم تأثرا بهذه الحركة