تأسيس الاتحادات العمالية في الولايات المتحدة الامريكية
ا.د.حيدر طالب حسين
جامعة كربلاء /كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم التاريخ
تأسس في عقد الخمسينيات اتحادات عمالية امتازت بمركزيتها نوعا ما منها (( الاتحاد الوطني للطباعيين )) في نيويورك عام 1850 والذي ضم في عضويته قرابة (30) الف عامل من الولايات المتحدة وكندا ، و((المؤتمر الصناعي القومي )) عام 1856 ، الا ان الازمات الاقتصادية غالبا ما كانت عوامل مدمرة لعمل الاتحادات والنقابات العمالية ، فما كادت ازمة عام 1857 الاقتصادية ان اتت على البلاد حتى اصيبت الحركة العمالية بنكسة في تنظيمها ، اذ كان لتفشي البطالة وانخفاض الاجور بالغ الاثر في النقابات على الاستمرار بعملها.
ومع نهاية الحرب الاهلية الامريكية ازداد التصنيع في البلاد وادخلت الآلات في كثير من مناحي الحياة ، ما ترك اثرا مباشرا على الطبقة العاملة ودفعها لزيادة حجم التعاون فيما بينها عن طريق تكوين الاتحادات والنقابات للمطالبة بحقوقهم من ارباب العمل . وخلال السنوات الخمس اللاحقة بعد الحرب الاهلية اسس عدد كبير من المنظمات العمالية ، واخذت فكرة تكوين الاتحادات الدولية تأخذ مكانها في الانتشار ، وقد ساعد على ذلك التحسينات التي ادخلت على وسائل النقل والاتصالات فضلا عن نمو النزعة الدولية ، وابرز هذه الاتحادات هي :
1-اتحاد العمل الوطني National Labor Union :
رغم كثرة الاتحادات والنقابات العمالية التي اسست قبل عام 1865 ، الا ان مصيرها كان الفشل ، لذلك اجتمع رؤساء النقابات المختلفة في ولاية نيويورك في 26 شباط 1866 وقرروا عقد مؤتمر وطني في مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند فب اب من العام نفسه ، وبالفعل عقد المؤتمر في الزمان والمكان المحددين وحضره (60) مندوبا من النقابات مثلوا (60) الف عامل في ثلاثة عشر ولاية واعلنوا فيه تأسيس ( اتحاد العمال الوطني ) الهياة الاولى الدائمة للعمال على المستوى الوطني ، وانتخب للاتحاد هياة تنفيذية من رئيس وسكرتير وامين صندوق وممثل واحد من كل ولاية ، واختير وليام سيلفس William H. Sylvis رئيسا للاتحاد الجديد.
نمى الاتحاد بسرعة كبيرة وبلغت عضويته في عام 1868 قرابة (640) الف عضو ، وعقد مؤتمراته السنوية خلال الاعوام (1867-1872) ، الا ان ما يلاحظ على الاتحاد انه كان فضفاضا ، اذ ضم في عضويته تجمع من السكان المحليين والتجمعات المهنية ورابطة ثمان ساعات عمل ، فضلا عن النقابات الوطنية ، ورغم تبنيه مطالب كل العمال في الولايات المتحدة ، ومنها قبول عضوية النساء والعمال الزنوج ، الا ان الانقسام سرعان ما دب بين تشكيلاته ، فطردت سوزان بي انطوني Susan B. Anthony عام 1869 بتهمة تجنيد الفتيات باجور منخفضة ، كما تخلى الاتحاد ( بسبب الانقسام ايضا ) عن الزنوج كونهم يقبلون باجور قليلة ، وعندما قررت بعض تشكيلاته الدخول بالعمل السياسي اعترضت اخرى ، وكان ذلك سببا في تشرذم اعضائه لعدم ايمانهم بالعمل السياسي ، لذلك تالف حزب العمل الوطني National Labor Party عام 1871 وخاض الانتخابات الرئاسية عام 1872 دون انجاز اي شيء ، وهذا ما كان مدعاةً لنهاية الاتحاد ، فلم يحضر مؤتمره المنعقد عام 1872 الا سبعة مندوبين فقط.
2-منظمة فرسان العمل Knights of Labor :
تأسست هذه المنظمة في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا عام 1869 من قبل يوريا اس ستيفنز Uriah S. Stephens وثمانية من زملائه الخياطين ، اطلقوا عليها تسمية (فرسان العمل ) وتبنت العمل السري تحت شعار (( الاضرار بواحد اضرار بالجميع )) ، اما الاشارة اليها فكانت بالرمز ( خمسة نجوم ) والى فروعها بالأرقام.
ميزت المنظمة نفسها بقبول عضوية العمال جميعا دون تمييز سواء من ناحية الجنس ام اللون ام العقيدة ، وعقدت مؤتمرها العام في مدينة ريدنغ Redding بولاية كاليفورنيا في الاول من كانون الثاني 1878 ، حددت فيه شروط العضوية ورسمها ( ان لا يقل عمر المتقدم عن 18 عاما ورسم العضوية 50 سنتا ) فضلا عن مجموعة من الاهداف التي تسعى لتحقيقها ومن بينها واهمها خفض ساعات العمل الى ثمان ساعات في اليوم ، وتحقيق المساواة بين الجنسين في الاجور ، ومنه تشغيل الاطفال دون سن الخامسة عشرة في المصانع والمناجم ، والغاء تشغيل المسجونين ، فضلا عن قائمة طويلة من المطالب والاهداف .
وبعد مضي عام على عقد المؤتمر اختير ترنس فنسنت باودرلي Terrence V. Powderly ليحل محل ستيفنز بصفته رئيسا تنفيذيا للمنظمة ، وظل عملها سريا حتى مطلع عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر ، اذ ونتيجة لكثرة الاتهامات لها بارتباطها بالشيوعية ووصفها من قبل رجال الدين الكاثوليك والبروتستانت بالوحشية وانها حركة غير معروفة ، لذلك قرر القائمون عليها التخلي عن السرية وممارسة العمل بشكل علني عام 1881 ، واصدرت ( مجلة العمل المتحدة ) صحيفة ناطقة باسمها ، ونتيجة لممارسة العمل العلني وقبول العضوية دون تمييز ازداد عديد اعضائها الى (60) الف عضو عام 1886 اغلبهم في الجنوب ، وبنهاية العام نفسه وصل الى (700) الف عضو وفتحت لها فروع في كندا ، لكن بعد هذا التاريخ تضعضعت مكانتها سنة بعد اخرى ، ويعود ذلك في جزء منه الى تفكك المنظمة لعدم قدرتها على تحقيق هدفها المعلن بجعل كل عامل سيد نفسه ، فضلا عن ان المنظمة وضعت ثقة كبيرة في التعاونيات لكن الاخيرة فشلت ولم تحقق غرضها ، كما ان الاصلاحات التي اقترحها باودرلي لم تحقق اهداف العمال الذين طمحوا الى رفع الاجور وتقليل ساعات العمل ، اضافة الى تشدده تجاه بعض الاضرابات التي لم يرغب بها ورفضه تقديم الدعم لها ، لكل ذلك ابتعد عنه كثير من الاعضاء ، ثم جاء ظهور الاتحاد الامريكي للعمل لينهي ما بداته منظمة فرسان العمل ، اذ شكل ظهوره اكثر الاسباب اهمية في افول نجم المنظمة وانتزاعه القيادة منها عام 1886.
3-الاتحاد الامريكي للعمل The American Federation of Labor :
تعود جذور هذا الاتحاد في الاصل الى الائتلاف الذي تم بين مجموعة من المنظمات والاتحادات العمالية عام 1881 ، منها فرسان الصناعة ، واتحاد العمال في الغرب الاوسط ، واتحاد المهن المنظمة والنقابات العمالية الذي شكل في بيتسبيرغ بولاية بنسلفانيا ، ونتيجة لعدم نجاح هذا الائتلاف فقد اعلن الاخير ضرورة تغيير الائتلاف الى اتحاد وطني اكثر قوة وشمولية وقادرا على مجابهة منظمة فرسان العمل ، وهذا ما تحقق بحلول كانون الاول 1886.
عقد المؤتمر التأسيسي في مدينة كولومبس بولاية اوهايو بتاريخ 7 كانون الاول 1886 ، اذ افتتح بيتر مغواير Peter J. McGuire رئيس ( الاخوية المتحدة للنجارين ) المؤتمر ، وانتخب جون مكبرايد John McBride من عمال مناجم الفحم المتحدين رئيسا للجلسة وبعد مناقشات وحوارات بين المؤتمرين تقرر انهاء اتحاد المهن المنظمة والنقابات العمالية وتأسيس الاتحاد الامريكي للعمل ، كما شهد المؤتمر ترشيح اربعة اشخاص لرئاسة الاتحاد الجديد وكان صاموئيل غومبرز Samuel Gompers الاوفر حظا من بينهم ، لذلك انتخب رئيسا للاتحاد.
اكد المؤتمرون ايضا على ضرورة اندماج جميع النقابات العمالية في امريكا باتحادهم مع الاعتراف لكل نقابة وطنية او دولية منضمة اليه بالسيادة على نفسها مع صلاحيات كاملة من الانضباط على اعضائها وقدرة على التفاهم مع اصحاب العمل من دون تدخل الاتحاد ، وبعبارة اخرى تأكيد الحكم الذاتي الكامل للنقابات ، وقد عزز الاتحاد قوته بالعمل معا وبعلاقاته التي كانت قوية الى حد كبير مع فروعه ، ومما نص عليه دستوره :
اولا –يسمى هذا الاتحاد باسم الاتحاد الامريكي للعمل ويتكون من اتحادات تجارية ونقابات عمالية .
ثانيا-1-تشجيع تأسيس النقابات المحلية في كل مدينة من المدن الامريكية .
2-تشجيع التعاون بين النقابات العمالية في الولايات جميعا للتأثير في المجالس التشريعية فيها .
3-تاسيس النقابات الوطنية والدولية مع الاعتراف بالاستقلال الذاتي لكل حرفة والنهوض بتلك النقابات .
4-ايجاد اتحاد امريكي للعمال لكل النقابات الوطنية والدولية … .
5-مساعدة وتشجيع الصحافة العمالية… .
8-لن تكون لسياسة الاحزاب أيا كانت ( ديمقراطي ، جمهوري ، شعبي ، او محظور ) اي مكانة في اتفاقيات هذا الاتحاد .
هذا فيما اختصت المواد الاخرى لدستور الاتحاد بتشكيل المجلس التنفيذي والايرادات والاشتراكات والعضوية والهيئات المركزية والمحلية ، فضلا عن تقييم الدفاع عن النقابات الوطنية والدولية ، وانشاء صندوق للتجارة المحلية والنقابات العمالية الفدرالية ، وفقرات اخرى اضيفت للدستور لاحقا بحلول عام 1932 .
ركز قادة الاتحاد جهودهم في الجانب الاقتصادي لحياة العمال من خلال رفع الاجور وخفض ساعات العمل ، واعلنوا حرصهم على تامين التشريعات التي تكون في مصلحة الطبقة العاملة ، وتشجيع بيع البضائع التي تحمل اسم الاتحاد ، والتأثير في الراي العام من خلال الوسائل السلمية والقانونية لصالح العمل المنظم ، ومساعدة وتشجيع الصحافة العمالية الامريكية ، والملاحظ ان برنامج الاتحاد كان اكثر قبولا لدى ارباب العمل من اي برنامج آخر وضعته التنظيمات العمالية الاخرى ، لتقييده عضويته بذوي المهارات العالية وتنظيمهم على وفق مهنهم ، فضلا عن حصر اهدافه بالأجور وساعات العمل ، والامتناع عن المشاركة المباشرة في الحياة السياسية ومعارضته لكل انواع التطرف ، وايمانه ان الرأسمالية يمكن ان تُقوض عن طريق التشريع والاصلاح، ولعل برنامجه جعل منه المؤسسة النقابية الانجح خلال المرحلة الاخيرة من تاريخ الولايات المتحدة الامريكية الحديث ، فقد ازداد عديد اعضائه خلال المدة (1887-1904) من (150000) عضو الى (1,650,000) مليون عضو . ومع هذا لم يكن للمنظمات العمالية وجود قوي ومؤثر حقيقي في الولايات المتحدة حتى الازمة الاقتصادية العالمية عام 1929 .