تبيئر الرؤى الصوفية في إشارات الألف عند أديب كمال الدين
(قراءة في أسلوبية الدوال الحروفية )
أ.د كريمة نوماس محمد المدني
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الانسانية
إن مساحة النصوص الإبداعية المعاصرة تتماثل بتعالق موضوعات متنوعة شعرية وأسلوبية في تشكلات صوفية متنوعة بأساليبها تنطلق عن وعي شعري _إبداعي يكون فيها حراك الشاعر حول رؤاه ونظرته المختلفة للحياة , وتستحوذ على فضاءات عميقة الإيحاء ,بتشكيلات نسقية مثيرة للقارئ ,ولذا جاءت تلك الصور الشعرية في منظورها الرؤيوي وكثافتها الشعورية الإيحائية بأبهى مشاهد تصويرية _صوفية تعززها الرؤى الصوفية وتحفزها المدلولات الشعرية
ومن هنا ارتأى البحث أن يسلط الضوء على أهم المرتكزات الجمالية والأسلوبية الصوفية في رؤى الشاعر ,فجاءت شعرية التساؤل عنده مفعمة بالأسئلة التأملية الصوفية المثيرة المحفزة للإجابات الشعرية .
أما المحور الثاني اهتم بدراسة نسقية التناص فهي تقنية مونتاج شعري ذات فاعلية بصرية متناصة مع النصوص المقدسة وظفها الشاعر في تأملاته الصوفية .
اما المحور الثالث فقد سلط الضوء فيه على تقنية المفارقة التي تستحوذ على فضاءات شعرية _صوفية ذات علائق نصية
وفي المحور الرابع تمت دراسة جماليات الانزياحات التصويرية المدهشة في اصطراعات الشاعر مع الواقع بصور انزياحية متصفة بالومض العاطفي الروحي الصوفي .
المحور الأول : تبئيرشعرية التساؤل
تعد بنية التساؤل الفلسفي شكل من أشكال التعبير الشعري المعاصر فرغبة الشاعر في معرفة الأشياء وتطلعه للتغيير وتمرده على الواقع بكل أنواعه جعله يكثر من التساؤلات في نصوصه الشعرية ،لان في السؤال رغبة الشاعر((في كشف رؤى جديدة في عالم الشعر,عن لغة جديدة تتأبى الجاهز من أساليب القول والانفتاح على بلاغات الشعر الجديدة ، الذي يبنى فرادته لبلاغات الماضي وأطره التقليدية ))
فتتعمق الرؤية الشعرية بتأملات وانساق صوفية متنوعة .
وتتبدد أسئلة الشاعر المكثفة في مساحات المتن الشعري بشفرات شعرية متغايرة ، فهو في إشارة الحرب لايدرك مالذي يفعله لشعوره بضياع كل شيء مما يثير دهشة القارئ حول نزعات صوفية خالصة يوجه شكواه لله تعالى بأسئلته الكثيرة :
إشارة الحرب
إلهي،
توقّفَ الملكُ عن إعلان حربه الجديدة
حينَ سمعَ بمقتلِ آخر جنديّ
في جيشه المهزوم.
إلهي،
هل أشبهُ هذا الملك المجنون؟
أم أشبهُ هذا الجنديّ المقتول؟
أم أشبهُ هذه الحرب التي لم تحدثْ أبداً،
أعني هذه الحرب التي تحدثُ كلّ يوم؟
نجد في المقطوعة أعلاه حوار الشاعر مع نفسه الضائعة مبني على التساؤلات الغريبة والجدال الصاخب بينهما وسط تلك الصراعات التي تحدث فهو لا يعلم يشبه من بين ملك يعشق الحروب او جندي ضحايا تلك الحروب اما ماذا ؟؟؟ فتلك أسئلة وجودية تثير فوضى الحياة ودمارها في نفسه وتحفز الرؤية الشعرية التي يبلور معناها بأسئلة كثيرة لايصل الى جواب منها سوى البحث عن الوجود المثالي بعيدا عن فوضى الحياة .
ونجد عمق الرؤى الصوفية عنده في تساؤلاته المشفرة عن هويته الغامضة في إشاراته الحروفيه السين :
إشارة السِّين
إلهي،
رأيتُ السِّينَ تفّاحةَ حُبٍّ
تبسّمتْ إليَّ وأشارتْ.
لكنّي تذكّرتُ حرفَكَ الأعظم
فاحرنجمتُ
ونزلتُ من الدرجِ أجرُّ خطاي
مرتبكاً محروماً مذهولاً.
إلهي،
من بعد سنين وسنين،
أسأل: هل كنتُ محظوظاً
إذ فارقتُ التُّفَّاحة وسطَ السِّين
وأنا الجائعُ حدّ اللعنة؟
هل حفظني المشهدُ هذا
مِن مشهدِ ما لا يُقال؟
هل آواني حيّاً
وأنا أركضُ مذعوراً في واقعةِ الزلزال؟
لكنّي من بعد سنين وسنين
أنامُ سعيداً وسطَ الشَّارع،
وسطَ كوابيس السِّين:
إذ أضعُ على الأرضِ جسدي
لكنْ مِن دونِ رأس،
وأضعُ على الأرضِ رأسي
لكنْ مِن دونِ عينين أو شفتين.
نجد الشاعر أديب كمال الدين يرتقي في تحولاته الاشارية الى شفرات حروفية ,فأتخذ من السين رمزا تأويليلا لفك شفرات تأملاته الروحيه مع إيقونة التفاحة التي قصد بها المرأة والتي زادت المعنى كثافة وإيحاء باستحضار حرف الله الأعظم في نفسه وهو يقاسي اشد حالات الجوع والحرمان بكل أنواعه والخوف الروحي وسط كوابيس السين التي لم يفصح عنها بمفارقات عجيبة، لإثارة دهشة القارئ وهو يرسم صورة تخييلية في خاتمة قصيدته النثرية ، ولذا فان مثل هذه التأملات الصوفية تعمق الرؤية الشعرية عبر الاستغراق بالرموز الصوفية التي تعزز المعنى جماليا عبر أسئلة تستثير القارئ .
ونجد في مقطوعة أخرى يتحدث عن فلسفة صوفية غريبة يربطها بآهاته ومعاناته من الواقع الأليم فأصبحت تلك الحروف دوال يبعثر فيها مايعتري دواخله بانزياحات رؤيوية خيالية فنراه يقول في إشارة البحر :
إلهي،
ماذا فعلتُ
كي أنفقَ العمرَ كلّه مع البحر؟
وكيفَ أنجو منه
وهو الذي يحيطُ بي
كما تحيطُ جدرانُ السِّجنِ بالسّجين؟
كيفَ أنجو منه
وهو الذي يتعرّى أمامي
بألوانه الباذخة
وأمواجِه الغامضة
فأذهبُ إليه كالمسحورِ حيناً،
وكالضائعِ حيناً،
وكالمجنونِ أحياناً أخرى؟
كيفَ أنجو منه
وهو الذي غرقَ فيَّ
قبل أن أغرقَ فيه؟
غرقَ في أعماقي السَّحيقة
حتّى صرتُ كلّ ليلة
أموتُ غريقاً
فأحملُ جُثّتي على خشبتي الطافية
يخلق الشاعر مثيرات علائقية بتحولات نسقية ينم عن عمق التجربة المكثفة بالأسئلة المفتوحة ذات انزياحات منسجمة مع المعنى الذي قصده ،فهو يجعل من الجدل الوجودي المغلف بشحنات دلالية تصويرية ذات بؤر نصية عميقة إذ جعل من دال البحر إيقونة الحياة والموت ،فوراء هذه الجدليات المغلفة بالأسئلة تكمن الحقائق المطلقة دافعة الى اكتناه المعرفة والحقيقة .