قال ابن بصال شارحا لآلية التركيب في عموم انواع المغروسات والنباتات على انها تجري بان يؤخذ قلم من الشجر المراد التركيب منها على ان يكون طريا – وهذا في الجنس المتوافق – ثم يُعمد الى عود الشجرة المراد التركيب عليها ، فتشق بلطف وسياسة في الموضع المراد التركيب فيه ، ثم تؤخذ الاقلام فتبرى ، ويكون طرفا رقيقا مبسوطا وعلاه غليظا ، ثم ينزل هذا القلم في الشق بين جلدة الشجرة بالحد الموصوف من الشق ، ويشد رأس الجرم المقطوع على الاقلام – ويراد منها جلدة الشجرة المشقوقة – بخيط الصوف شدا جيدا وتصنع له خلخال- أي ثوب خلخال رقيق ويراد منها خرقة الثوب الرقيقة17 – من فوق أو حشيشة ، ويشد بالخيط شدا وثيقا ، ويكون الخلخال هذا تحت القطع بمقدار شبر ، وتجري عمليات التركيب في الاعم الاغلب على هذا المنوال لمعظم انواع الثمر .18
لكن عمليات التركيب لم تقتصر على الاجناس المذكورة وذواتها المتشابهة ، بل وجد العرب طرائق وحيل لتركيب الاجناس المختلفة ، فركبوا ثمر على جنس ثمر آخر من جنس مختلف ، على الرغم من تباعدها وتنافرها ، واوضح ابن بصال بعض من هذه الطرائق والحيل الفنية الغريبة في التركيب ، وقال : مثال ذلك ان تريد تركيب شجر التين في الزيتون فوجه الحيلة في ذلك ان تقصد الى فرع من الزيتونة فتنشره وتشقه ، ويكون هذا الشق اطول قليلا مما تكون عليه في حالات التركيب الاخرى للثمار من الجنس نفسه ، ثم تصنع من الفرع المقطوع بعينه لزايز19 في غلظ الاصبع ، وتنزل تلك اللزايز مع جنبي الفرع المشقوق، وتنزل نزولا جيدا على مثال ما يصنع في تركيب الشق يكون في الجانب الواحد من الفرع لزاير وفي الآخر كذلك ويكون الشق مفتوحاً في جوف الفرع يدخل في ذلك الشق اصبعان او ثلاثة ، ثم يقصد الى ظرف جيد نحو صحيفة واسعة او قادوسكبير – والقادوس عبارة عن اناء يخرج به الماء من السواقي والمعروف عنه كذلك هو الفتحة في اسفل الحوض يخرج به الماء- ويثقب من اسفل ذلك الظرف ثقبة على قدر ما يسع الفرع المنشور فيها ، ويصنع خلخال ، وهو الثوب الرقيق كما مر ذكره آنفا ، اسفل الفرع المنشور بثلثي شبر ونحوه و، ينزل ذلك الظرف على ذلك الخلخال ثم يؤخذ الطين الطيب اللزج المخدوم مثل طين الفخارين – أي على هيأة الطين الذي يصنع منه الفخارين آنيتهم – ويبيض به حول الثقبة التي في الظرف – أي ان يحاط الثقب من حوله بذلك الطين – ويشد به ، ثم يؤخذ من الزبل البالي المتقادم جزء ومن التربة السوداء المدمنة جزء ومن الزبل جزء ويخلط الجميع خلطا جيدا ويغربل بغربال الطعام ، ثم يملأ منه الشق الذى في الفرع ويجعل باقيه في الظرف ، ثم تؤخذ الزريعة من التين وتدفن في ذلك الشق ، وتغطى بالتراب ، وتسقى بالماء ، فيصير ما في القادوس ارضا وتراعى بالسقي كي لا يجف ارضها ، فان الزريعة تنبت في الشق لا محالة ، وتتمكن وتغوص الاصول في شق الثمرة وتلتحم معها ، فاذا تمكنت ونبتت نزع الظرف ، وهذا هو وجه العمل فيه ، وهكذا ايضا يصنع بشجرة التفاح ، والاترج ، والورد وما شابه تركيبها في هذا العمل في اي جنس شئت ، ومن احب ان لا يزرع الزريعة وامكنه ان يأخذ الفرع الذى ينبت من الزريعة بأصوله ويغرسه في الشق المذكور ويسقيه بالماء ، ويتعاهد به الى ان ينبت ويتمكن فهو اعجل واقرب .
وان كان هذا المزروع مما له نواة ، مثل البرقوق ، واللوز وعيون البقر وما اشبه هذا، فالعمل في زراعته كما تقدم الا انه يضرب بمقدار اصبعين من التراب او الرمل ويسقى بالماء كي لا يجف له ارض الى ان ينبت ويتمكن من الانبات .
أما في تركب الورد في العنب ، او اللوز او التفاح فوجه العمل في اخذ هذا القلم ان تكشف عن اصول الورد وتأخذ الاقلام من تلك المواضع الصلاب منه فهي التي تنبت وتمكن وذلك ان قضيب الورد وضم كله فاذا اخذ القلم من فروعه لم ينتفع به فالوجه ان يؤخذ من الاقلام الطفها وارقها ، ويكون تركيبها في اللوز والعنب والتفاح بالشق على ما مر ذكره سابقا قبل هذا في تركيب الشق من نشر الثمرة واخراج النشر وعمل الخلخال وانزال القادوس قبل هذا على الطريقة التي بيناها أعلاه نفسها .
قال ابن بصال: ان عمدة التركيب ومداره على معرفة اخذ الاقلام والمراعاة لأوقاتها واحوالها، وان الاثمار يتقدم بعضها بعضاً في اللقح ، ويتأخر واذا ضرب بالقلم في اللقح فلا خير فيه في ذلك العام للتركيب ، فاذا قطع القلم قبل ان يلقح وحضن عليه – احيط به بالطين او تراب حفاظا عليه في حفرة او نحوها – يبقى الى الوقت الذى يحتاج إليه لا يتغير ، ولا يكون اخذه الا وقت جرى الماء في الثمار، وتحركه فيها فيقصد اليها حينئذ وتتخير منها الاقلام الموافقة للتركيب وهى التي لم يمسها ضرر ، وتكون متعقدة متقاربة العقد ، ويكون غلظها مثل المسلة – أي الابرة الكبيرة تخاط بها الاكياس من الكتان- او اغلظ قليلا، فاذا اخذت على هذه الصفة وربطت مجموعها ويحفر لها حفرة من نحو الذراع ، وتجعل فيها الاقلام ويرد عليها التراب، واذا احتيج اليها اخرجت وبريت على ما يحتاج اليه من الرومي – أي ان يبرى طرف من طرفي القلم بشكل زاوية ويسطح – او الشق ثم تجعل في الماء ثم يعمد الى الثمرة التي يراد ان تركب فيها او تقشر من جلدتها بالقدر المطلوب ، وان كانت الثمرة التي يراد ان يركب فيها قد لقحت لم يصرها ما يفعل بها من القطع، بخلاف القضيب الذى يراد التركيب فيه، فانه اذا لقح ثم قطع ليركب في ثمرة اخرى لم ينجب اصلا، كذلك ما لقح وورق اذا قلع وغرس لم ينجب الا ان يقلع بجميع اصوله وعروقه وتضاف اليه الارض التي هي فيه وتشد بالحصير والحبال ، فاذا فعل هذا بها نبتت وتمكنت، وكذلك الملوخ – أي الفروع المصابة – اذا لقحت ثم ملخت وغرست لم تنبت بوجه من الوجوه، والعلة في ذلك ان المواد في الثمار راكدة ساكنة ما لم تلقح ، فاذا لقحت تحركت المادة وجرت بسرعة فهي محتاجة الى ان تردفها مادة اخرى بسرعة ايضا، فهي اذا قطعت بعد اللقح لم تكن لها مادة تردفها الى بعد حين ، الى ان يلتئم التركيب او يلبث الغرس فيقارب الا من في ذلك ، فتنقطع المواد بعضها عن بعض لا يتلاحق فيكون ذلك سبب هلاكها ، واما الشجرة التي يركب فيها فبخلاف ذلك ، لأنها اذا قطعت بعد لقحها ترددت فيها المادة وقويت، فاذا نزل فيها القلم دفعت اليه بسرعة ولقحت مادتها بمادة القلم الراكدة فيها بحركتها والتأما واتحدا بسرعة .
وكذا فان من الثمار ما يحتاج عند تركيبها الى الظروف ومنها ما لا يحتاج الى ذلك ، و ان تركيب الاقلام ينقسم نوعين بالشق وبالرومي، فما كان من التفاح وعيون البقر والاجاص واللوز والرمان والعنب والزيتون ونحوها مما لها المواد القوية، فأنها متى ركب بعضها في بعض ولم يخالف بها – اي ان يركب التفاح في التفاح والزيتون في الزيتون- فهذه مستغنية عن واسطة، وهى الظروف ويكتفي بالطين فيها فقط ، لأنها تقوم بأنفسها وتلقح وتنبت، وما كان من شجر التين اذا ركب بالشق والرومي فلا يستغنى عن القادوس لان شجره وخم – أي عفن – ، فاذا وسم بالشق تمكن فيه الهواء ووجدت الشمس السبيل اليه، وكذلك اذا ركب الورد في اللوز او الفستق في اللوز او الورد في العنب او الرند في الزيتون والزيتون في الرند وفي الضرو- الضرو عشبة لها اسماء كثيرة مثل البطم، والمُصطَكى، والمستكة – فهذه الثمار لا بد لها من الوسائط التي تجمع بينها وهى الظروف ولو كان التركيب – اي ما يركب بالقلم – فيحجب بالقادوس لكان احسن لان الظرف ينزل عليها بالتراب وتسقى بالماء وفي التراب تغرس جميع الاشياء وفيه تنبت والماء يغذى كل نبات فيصير التركيب كأنه مغروس في تلك القواديس فلا يحرم شيء وتنبت جميعها ، وهذه هي اوجه غريب التركيب وحيله التي ذكرها ابن بصال في كتابه ومثلت ما تمكن الوصول اليه من معرفة في فن الفلاحة عند عرب العصور الوسطى .