تقنيات الاستعمال اللغوي في انتاج الخطاب
عهد الامام علي “ع” الى مالك الاشتر انموذجا
ا.د هادي شندوخ حميد
أولا: التقنيات الاسلوبية: ان عملية التواصل في النص المنطوق او المكتوب تتأسس بين المخاطبين، وفق نسق من الطابع التعاقدي في عملية الافهام و الحوار او الجدل، وفي منحى اخر تغدو العملية التواصلية سياقا للتأويل، حينما تكون هناك رمزية في النص فيغيب تحصيل الفهم وإنتاج الدلالة في مركزية الخطاب الحواري.
لذلك نرى ان الإبلاغ بوصفه تقنية لغوية يتوخى تنميطا من الممارسة الاقناعية لخلق المقبولية عند المتلقي بالاستمالة او الاستدلال تارة او الحفر في المهيمنات التي تشكل ذهنية متلقي الخطاب تارة اخرى، فيصبح التواصل آلية للتساند والتثاقف لا في افتراض المقاصد بل أداة لتعددية القراءة في تلك الممارسة القولية لإبراز أنماط الوعي المتحكمة والمستنطقة لطبيعة النص بما له من أدوات او مرجعيات تؤمن دور قضايا إزاحة المختلف في تلك التركيبة من الخطاب.
والتحليل الفاحص للنص يؤمن مساحة من التقنين اللغوي في تحريك الجمهور من خلال القنوات التي أراد الامام (ع) منها إيصال رسالته اليهم عن طريق الحامل والوسيط المتمثل بمالك الاشتر ، فظاهرة تنوع مراتب الخطاب في سلسلة لغوية مختلفة تمثل دوالا كاشفة لمهيمنات تتوخى الاثارة والاقناع في عهد الامام (ع) لواليه.
من ذلك تنوع الخطاب في النظر الى تقسيم المجتمع الى طبقات يقول (ع) : ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ وَلَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَمِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً)) (19) من ذلك قوله (ع) : ((فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَزَيْنُ الْوُلَاةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الْأَمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مَا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ وَفِي اللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ)) (20) فالتدرج في التصنيف الطبقي بدءا بالجنود يعطي سمة دلالية يعتورها أسلوب التقديم والتاخير فالعرب لاتقدم الا بما كانت عنايته اهم واوفر يقول سيبويه : ((كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهمُّ لهم وهُمْ ببيانه أَعْنَى؛ وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم))(21) وهو بلاشك نمط يقوم على كشف التنميط الأعلى لتلك الطبقة الاجتماعية (فالجنود) صمام امان لحماية الدولة واستقرار مواطنيها لذلك يلحظ ذلك القصد من علة التقديم والتاكيد عليهم تفصيلا في مركزية مهمة من الخطاب. ثم يولي القادة العسكرية العليا مكانة خاصة منهم يقول (ع) : ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ وَمِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ)) (22) بمحورية تقوم على التعدد في سمات تلك الثلة من طبقات المجتمع بمتتالية تقوم على الانتخاب والتوظيف المعتمدين على (افعل التفضيل) تارة (انصحهم ، وانقاهم ، وافضلهم ) والتكرار في العطف بالواو والتكثيف في اعتماد الفعل المضارع والتوكيد، وكلها مؤشرات لاتقوم الا على دلالة تستجمع الثبوت والاشتراك والاستمرارية في تمثل تلك الصفات من الحاكمين كمنطق من التوجيه .
واذا كان ((المتكلم هو الذّات المحورية في إنتاج الخطاب، لأنّه هو الذي يتلفظ به، من أجل التعبير عن مقاصد معيّنة وبغرض تحقيق هدف فيه” )) (23) فان تاكيداته على تلك الطبقات الاجتماعية يأتي من فلسفة تقوم على يقين وتصور في أهميتها السياسية والاجتماعية.
من ذلك قوله عن طبقتي الخاصة والعامة ففي الطبقة السفلى ، يقول (ع) : ((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)) (24) ويقول عن الطبقة السفلى (ع) : (( ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى ، مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ : مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَ (شدة الفقر) والزَّمْنَ (أصحاب العاهات) ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً . واحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ )) (25) اذ يظهر الترتيب كتقنية اسلوبية في منطق استحضار مركزية الجمهور في تلك الوثيقة الدستورية ، فالخطاب : (( يعتمد نوعا من البناء المعتمد على الكلمات والتفكير ولايتم هذا البناء على محض الصدفة بل لابد من احترام معايير المعمار وقواعده )) (26) وترتيب البناء هنا يقوم على المقارنة بين اسلوبين في التعامل مع الجمهور لتكون النهاية ترجيح كفة العامة من الناس فبهم تكون القوة ودوام عوامل الاستمرارية ، يقول عزيز السيد جاسم : ((فمن يربح الفئات العليا يخسر ماتحتها في السلم الاجتماعي في حين ان من يربح القاعدة الاجتماعية العريضة يربح اغلبية المجتمع وقد لايخسر كل الخاصة ثم ان العامة من الامة هم المصدر الدائم للواردات الاجتماعية المتجددة.. فيترتب على ذلك ان التعامل المبدئي مع عامة الامة يصبح حتما تعاملا تاريخيا بعيد المدى لانه ينطوي على عوامل الاستمرارية والثبات والقوة ..ويشخص ابلغ تشخيص خصائص الخاصة فافرادها اثقل على الوالي في الرخاء واقل معونة لهم في البلاء واكره للانصاف)) (27) ثم يأتي التوكيد بالتكرار مع الطبقة السفلى بلفظ الجلالة (الله الله) لاحداث مؤشر من التنبيه على أهمية تلك الطبقة التي لاحيلة لها الا عطف الحاكم وانصافه ، لمزيد من العناية والترغيب في النظر والاهتمام بهم .
ثانيا: التقنيات الاقناعية: ولعل اكثر ما يحدد تلك التقنيات نوع الخطاب، والممارسة الواعية بمقاصد الرسالة المتوخاة من قبل المنشيء ، وفي الخطاب السياسي ، بلا شك ان الممارسة تقوم على حركة من الامتداد القصدي في تشكيل وعي المخاطب واستمالته او تضليله في أدوات أخرى بعض الأحيان ، على وفق اهداف الباث ونظره الى السلطة كوسيلة او غاية في إدارة أمور الناس.
واستنادا الى سياسة امير المؤمنين (ع) في الحكم كما ترويه المدونة التاريخية ، فان اول مايلحظ ان تقنيات الاقناع في مخاطبة الجمهور لاتتكلف الاجرائيات في التاثير والاستمالة بل ، ان الطريقة هي تحريك منطقة الفطرة او اثارة الهاجس العقلي أحيانا، وهذا مايلحظ ويبرز بشكل جلي في عهده (ع) الى مالك ، فالمتامل للنص يلتمس ان مركزية الجمهور عنده (ع) تقوم على ادراك واع بطبيعة الجمهور واحتياجاته ، لذا فالاساس عنده (ع) الاشتغال على حفريات البنى المكونة للنسيج الجمعي في رؤيته للحاكم والسلطة ، فتاتي المخاطبة مقرونة بالتعاطي مع تلك السلوكيات والمكونات على ضوء منهج اختط وفق أسس متينة لها اثرها في احراز النتائج.
من ذلك ما يلحظ في الاستمالة العاطفية للجمهور حين يوصي مالكا بقوله : ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ)) (28)
فالسعي المتأصل عند الامام بتلك الموجهات المركزية، يقود الى أسئلة تتوالد من النص تتكور عن اسرار تلك التأكيدات بالإلحاح عن فلسفة الاهتمام بالجمهور، فالمطلوب من صانع الحدث ان يقوم بما يلي : (الرحمة والمحبة واللطف والرفق والعفو والصفح) وهي قيم تخلق انموذجا لسياسة مثالية في التعامل بين الحاكم والرعية ، وتؤثث لأداء مؤهل لقيادة ناجحة ، وربما هذا النحو من الاقتراح الخطابي يعبر عن حقيقة تفكير العامة ومنظارها الى الحاكم ، لذلك جاء الفهم العميق بتلك المكنونات إجابة عن قلق حيرة الجمهور، وبالقدر الذي تتبين به تلك المركزية للجمهور فان التقنيات المستعملة في اثارة المخاطب (الجمهور) شكلت تواصلا مشتركا في حصول مستوى معين من التفاهم بين الأطراف في تلك القيم المنصوص عليها، ولعل الذي يبرز منزلة الجمهور اكثر ان اطار الاشتغال على الوصايا المتعلقة بهم هي الأكبر والاوسع ورودا في تدوين النص، مع مزيد من التأثير في تركيب صورة بلاغية ذات دلالة تؤمن مسارا من الاطمئنان عند الجمهور بان الحاكم ليس له الحق ان يكون كالسبع الذي يتجاوز على حقوقهم وامالهم .
ويقول (ع) : ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ)) (29) وهنا يقترن مفهوم التعاطي مع الجمهور بادوات لابد ان تكون حاضرة في مشهد حركة الامرة والإدارة ، فالفاعل القرائي الجوهري في تلك المعادلة هو حسن الظن بالرعية وهو الفهم الصحيح القابل للتصديق بوصفه التجربة الحقيقية لتطمين هاجس الرضا عند الجمهور. يقول ابن ابي الحديد : ((ان من احسن اليك حسن ظنه فيك، و من اساء اليك استوحش منك، و ذلك لأنك اذا احسنت الى انسان، و تكرر منك ذلك الاحسان تبع اعتقادك انه احبك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد امر آخر، و هو انك تحبه، لان الانسان مجبول على ان يحب من يحبه، و اذا احببته سكنت اليه، و حسن ظنك فيك، و بالعكس من ذلك اذا أسأت الى زيد، لأنك اذا أسأت اليه و تكررت الإساءة تبع ذلك اعتقادك انه قد ابغضك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد امر آخر، و هو ان تبغضه انت، و اذا ابغضته انقبضت منه و استوحشت، و ساء ظنك به)) (30) وفي ذلك كثافة لإنتاج تلك المشهدية بوساطة سلسلة من السلوكيات تمثل شبكة من المعاني الإنسانية المفتوحة في الواقع الاجتماعي حين تكون سياسة ينطلق بها الحاكم ويجعلها ثقافة تتحرك في الناس من خلال تعاطيه بها مع الناس، يقول احد الباحثين : ((يرى الاجتماعيون ان ذوي القلوب الرقيقة والعواطف الشريفة السامية يحاولون ان يخففوا الويلات والالام والبؤس عن الطبقات التعسة الشقية بالإحسان )) (31) والأولى من هؤلاء في نظر الامام (ع) هم الحكام في تعاملهم مع الجمهور بتلك الطريقة والأسلوب.
وفي نص آخر يقول (ع) : ((وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ )) (32) وهنا الامام (ع) في اطار تمكين حيز التواصل يستثمر الطاقة التي يتمتع بها الحاكم من سلطة ومال واعوان قد تكون أدوات تمويه وخداع وايقاع في فخ الترف واللهو والاحتجاب عن الناس ، لان تنصرف كل تلك الوسائل في طريق تضعيف العلاقة بالجماهير وفق تفاعلية وحوارية وديمومة لما في ذلك من اثار تقود الى زعزعة الدولة وانهيارها ومن ثم سخط الجمهور وانقلابه على فلسفة الدولة وحكمها.
وهنا تم الاشتغال في تلك الاستمالة على المنزع النفسي عند الجمهور ، كون (الجمهور) يؤمن بقبول فكرة عدم احتجاب الوالي عنهم والنظر في مصالحهم واحتياجاتهم ، لذلك جاء الميثاق باستظهار سمات الاحتياجات المنبثقة من واقعهم ومن سجاياهم النفسية ، وبطريقة تقوم على الاثارة من خلال تقنيات الاجمال والتفصيل فالاحتجاب مثل مفهوما مجملا ليأتي بعد ذلك تفصيل اثار ذلك المجمل ونتائجه الوخيمة على الواقع لأنه يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ . ويتوافر خطاب الامام (ع) في عهده على تقنية أخرى تقوم على الاستمالة بالتقريظ، بوصفه أسلوبا يستعمل عادة من اجل الشروع في التأثير على المخاطب من خلال الاشتغال على ما يحركه وجدانا وصولا الى ما يمكن التوغل به الى قناعات المخاطب ومن ثم تحريكها وفق مسار المبتغى والمقصد.
ولعل تقريظ بعض الطبقات من الجمهور في خطاب الامام لم يكن عملا اعتباطيا بل هو ايحاء لضمان تأييد تلك الفئات وما تشكله من اثر في استقرار الممارسة السياسية للدولة ، او ما تمنحه من توافق لموجهات الحاكم في تعاطيه السياسي مع الناس، يقول احد الباحثين : ((تقريظ الجمهور الحقيقي او المستهدف احد الاستمالات الأكثر شيوعا في الخطاب السياسي بوجه عام )) (33) ، يقول (ع) : ((وَلَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ)) ( ) فمن الجمهور يكون المحسن والمسيء ولكل منهم قوة وتمثل في تشكيل مساحته ، داخل المجتمع لذلك اوجد الامام (ع) فلسفة للتعاطي مع ذلك النسيج لا تمثل رؤية للحاكم فحسب بل هو تمييز لتلك الطبقة من فئات المجتمع على وفق معطيات الاحسان والإساءة وصولا الى الاقتراب الحقيقي من إيجاد الجمهور الأمثل الصانع لمبادئ الوعي والايمان. من خلال الاشتغال على اهل الاحسان وبيان قيمتهم الحقيقية في المجتمع ، وفي ذلك أيضا تحييد لأهل الإساءة في مشاركتهم لأهل الاحسان في الحقوق والامتيازات والقيم. لاسيما ان المعطيات الثقافية في عصر الامام (ع) مثلت تداخلا في تلك القيم فمنهم المؤيد ومنهم المحايد ومنهم الرافض واغلبهم يبحث عن مساحة حضور في الدولة الجديدة ولو كان مسيئا بعيدا عن تعاليم وسياسة علي (ع) في الحكم.
ويؤكد الامام (ع) في نص آخر على طبقة اخرى : ((ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا وَلَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَلَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ)) (34) ففي المقام الأول تبدو العناية منصبة على تحفيز الاهتمام بتلك الطبقات وفق أولويات في الذكر، لما لهم من آثار في تشكيل الحقيقة النوعية للمجتمع كرما وقيما وعرفا (ذوو المروءات والاحساب واهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم اهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة) اذ ان كل طبقة منهم تشغل حيزا من المنظور الانجازي في توطيد التماسك الاجتماعي وتعميق استقرار هيكلية الدولة ، لذلك توخاهم الامام (ع) واكد على الالتصاق بهم لانهم مناط الارتقاء ونواته اجتماعيا.
و في سياق المدح والتقريظ لطبقة الجنود يقول (ع) : ((وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِي يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ. )) (35) مبديا (ع) اهتماما واسعا وعميقا ليس بالجنود بشكل عام بل هناك خصوصية لمن امتلك ايثارا في المواساة والنبل ، لانجاز وظائف عملية تتمثل بتحقيق غاية الانسجام بين معسكر الجيش دفعا للخلاف والتفرقة اللذين يوديان بالهزيمة والانكسار المعنويين ومن ثم ضياع الرسالة والمبدأ .
وفي سياق تأسيس وظيفة تراتبية تتشكل منها سلطة الدولة من خلال إقرار الاصلح في الحاكمية والقيادة ، يقوم الامام (ع) بالدفع الى تقنين معيار يمكن ان يكون مقياسا يتجاوز مساحة الزمن التاريخية ، ليكون أداة تنفيذ واحتكام يرجع اليها عند القيام بتولية من هو اهل للقيادة والممارسة في عملية إدارة شؤون الناس وتلبية احتياجاتهم وهواجسهم .