جمالية التشكيل الحواري عند السيد الحميري – الطائر المشوي انموذجاً
اتسعت دائرة الحوار في شعر السيد الحميري فلم يعد ضيق النطاق مقتصراً في حواره مع نفسه أو بينه وبين غيره ، وإنّما عبر تجسيده لحوارات أهل البيت ( عليهم السلام ) المتمثلة في روايته للنصوص التاريخية والدينية خصوصاً احاديثهم التي حفظها فرصة عظيمة للاستفادة من الصور والتعابير التي حوتها تلك الحوارات لما لها من  فضائل ومناقب قدسية عند المسلمين عامة وشيعتهم خاصة ، فالشاعر سعى إلى توظيفها في شعره ، ولم يقتصر هذا التوظيف لإظهار فضائلهم فحسب، وإنما للدفاع عنهم وبيان حقيقتهم التي مازال المنكرون لها يسعون إلى إخفائها وإزالتها عنهم ، أو إعطائها لغيرهم ، من خلال استعراضه لصفات أهل البيت المعروفة والمشهور عند المسلمين والأديان الاخرى من كرم وتقوى وبر…، ليروي بعض القصص التي حدثت لهم  بأبيات أو مقطوعات ,باعثاً فيها الحياة من جديد وساعياً إلى احيائها بكل تفصيلاتها الدقيقة ، على نحو ما نجده في قصة الطائر المشوي التي جاءتْ به أُمُّ ايمن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) قائلاً فيها : }  من الطويل  {
“وفي طائر جاءتْ به أُمُّ أيمنِ
فقال إلهي آتِ عبدَك بالذي
ليأكل من هذا معي وينالَهُ
فقال له إن النبيَّ – وردَّه-
فعاد ثلاثاً كلُّ ذاك يرُّده
فأسمعهُ القِرْعَ الوصيُّ لِبابهِ
وقالَ له يشكو وقد جئتُ مرّةً
فسرَّ رسولَ الله أكلُ وصيِّه
وقالَ لهُ ما إنْ يحبكَ صادقٌ
ويَقْلاكَ إلا كافرٌ ومنافِقٌ

 
بيانٌ لمن بالحقِّ يرْضى ويقنَعُ
تحبُّ وحبِ الله أعلى وأرفَعُ
فجاءَ عليٌ منْ يصدُّ ويمنَعُ
على حاجةٍ فارجع وكل ليرجع
فأهوى بتأييدٍ إلى البابِ يقرَعُ
فقال له أدخُل بعدما كاد يرجعُ
وأُخرى وأُخرى كلّ ذلك أُدفَعُ
وأنفُ الذي لا يشتهي ذاك يُجدَعُ
من الناسِ إلا مؤمِنٌ متورِّع
يفارق في الحقِّ الأنام ويخلعُ”
([1])

واضح من خلال النص الشعري أن الشاعر سرد لنا الحادثة التي يدور حول قصة الطائر المشوي وكيف حاولت هذه الشخصية الدخيلة بعد دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ([2]) صرف أمير المؤمنين (u) دون وصوله إليه , مكرراً بذلك افعال القول ومن الطبيعي أنّ هذه الأفعال حين تأتي فأنها تفرض على بنية النص مسحة سردية , ثم يأتي بعدها تفاصيل الحكي , وربما يكون هو الراوي – الشاعر نفسه – يفتح لنفسه مجال السرد عبر العناصر الفنية والأسلوبية التي يمكن أن تحدد هذا الشكل الدرامي والتي أظهرت القوة في إيراد المعنى داخل القصيدة ([3]) فهي ” تعني في حقيقتها التعبير الموضوعي لا الذاتي , ومعنى هذا أن الشاعر هنا لا يعبر عن عواطفه وتجاربه الذاتية بطريقة مباشرة كما هو في الشعر الغنائي وإنّما ينسحب من الموقف ولا يشارك مباشرة في ادارة الحوار بين الشخصيات يتركها تحاور أو تتصارع “([4]) فيما بينها , ولذا فإنّ هذه القصيدة تعد نموذج يعكس طريقة السيد الحميري في تصوير الموقف الذي لا يكون طرفاً مباشراً أو ذلك الموقف الوجداني والاجتماعي الذي ينسحب منه ليترك غيره يتحدث عن تقنية سردية محايدة ضمير الغائب باعتباره صورة درامية سردية حيث جعلنا الشاعر نتابع المشهد سماعاً ورؤية عن طريق الوصف والسرد كما رأينا ([5]) ثم أن الشاعر أفاض إلى حُسن تخلُص جميل عبر النصوص المقدسة والأحاديث النبوية الشريفة الدالة على محبتهم متخذاً من الشعر منفذاً ليصرح بعقائده والآراء التي يؤمن بها من دون تردد في البيتين الأخيرين ليؤكد صدق محبته لهم أولاً في تجسد قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ” لا يحبنا أهل البيت إلاّ مؤمن تقي ولا يبغضنا إلاّ منافق شقي”([6]) وثانياً لتحصيل مراد الشاعر في إبلاغ رسالته الشعرية في حق ممدوحيه من أهل البيت ( عليهم السلام ).
 
([1]) ديوان السيد الحميري :137.
([2]) بقوله : “اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي فجاء علي فأكل معه” , ينابيع المودة : الباب الثامن :66
([3]) ينظر: آليات السرد في الشعر العربي المعاصر :  161.
([4]) مستويات الاداء الدرامي عند رواد شعراء التفعيلة : الدكتور عزيز لعكاشي: 11
([5]) ينظر : م . ن : 18.
([6]) كفاية الأثر : الخزار القمي الرازي :102

شارك هذا الموضوع: