جمالية التكرار الصوتي بينَ التراث واستعمال نهج البلاغة
محمد وداعة عبود
الدكتوراه / فرع اللغة
وهذا بابٌ واسعٌ قد ذُكرَ في كُتبِ الأقدمين، ومعناه أنّ ثَمةَ ألفاظ مناسبة لمعانيها – وتسمى بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ والمعنى، وهو غير مطرد بحَسب ما أثبتته الدراسات ، وأول من قالَ بالمناسبة الطبيعية بين الصوت والمعنى ( عباد بن سليمان الصيمري ).() قالَ ابن جني في معرض كلامهُ عنه:(( اعلمْ أنّ هذا موضع شريف لطيف , وقد نبَّهَ عليه الخليل وسيبويه , وتلقتْهُ الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته . قال الخليل : كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا فقالوا: صَرَّ, وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا : صرصر، وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة , نحو: النقزان والغلبان والغثيان, فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال)).() أيضًا من دلالة الجرس المناسب للصوت المناسب تكرار حروف الكلمة لنفس اللفظة وهي ظاهرة جديرة بالاهتمام عند الأصواتيين ، فهي توحي بتكرار الفعل نحو : [ كَبْكَبَ ، حَصْحَصَ ، زَحْزَحَ … الخ ] ، ولهذا التكرار وَقْعٌ في أُذن السامع فتكرير الصوت يوحي بتكرير المعنى ، كذلكَ أنّ أسلوبَ التكرار( يحوي امكانياتٍ تعبيريةٍ كأيّ أسلوبٍ آخر، إنّه في الشعر مثله في لغة الكلام ، يستطيع أن يُغْني المعنى ويَرْفَعهُ إلى مرتبة الأصالة ).() أما مايخصّ توجيه اللفظتين [ زحزح ، وكبكبَ ] يقولُ الدكتور ماهر مهدي هلال في مَعرض حديثة عن الخصائص اللغوية للفظتين المذكورتين في أعلاه ، الواردتين في القرآن الكريم :(( فكلمة ” بمزحزحه” في قوله تعالى ” وماهو بمزحزحه من العذاب أنْ يعمر” ” البقرة : 96 ” ، توحي للسامع بجرسها ” صورة الزحزحة المعروفة كاملة متحركة من وراء هذه اللفظة المفردة ” وكذلك قوله : ” فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود ابليس أجمعون” ” الشعراء : 94″، ” فكلمة كبكبوا ” يُحَدّث جرسها صوت الحركة التي تتم بها ، ويصورها للسامع أدق تصوير . ومن الواضح أنّ وضعَ هاتين اللفظتين اللغوي هو الذي يمنحها هذه الصورة ، وليس هو استعمال القرآن الخاص لهما ))() واللفظتان التي ذكرها قد وردتا في بعضِ النصوص العَلَوية ، فقد وردتْ لفظة [ الزحزحة] في خطبة له ( عليه السلام] في سياق وصف نار جهنم : والتحذير من أهوالهايقول فيها:(( ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً )، قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وَانْقَطَعَ الْعِتَابُ، وَزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدّارُ، وَرَضُوا المَثْوَى وَالْقَرَارَ)).() والزحزحة في اللغة:(( زُحْزِحَ أَي نُحِّيَ وبُعِّدَ.. وزَحْزَحه فتَزَحْزَحَ: دَفَعه ونَحَّاه عَنْ مَوْضِعِهِ فَتَنَحَّى وباعَدَه مِنْهُ ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ :َ ياقابِضَ الرُّوحِ عَنْ جِسْمٍ عَصَى زَمَناً.. وغافِرَ الذَّنْبِ، زَحْزِحْنِي عَنِ النارِ، وَقِيلَ: هُوَ مأْخوذ مَنْ الزَّوْحِ ، وَهُوَ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَكَذَلِكَ الذَّوْحُ .. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ: أَنه قَالَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ لَمَّا حَضَرَهُ بَعْدَ فَرَاغَهِ مِنَ الجَمَلِ: تَزَحْزَحْتَ وتَرَبَّصْتَ فَكَيْفَ رأَيتَ اللهَ صَنَع ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: كَانَ إِذا فَرَغَ مِنَ الْفَجْرِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وإِنْ زُحْزِحَ)).() وردتْ ألفاظٌ تحملُ هذا اللون من الدلالة منها- خطبة له (عليه السلام) خطبها عند عِلمه بغزوة النعمان بن بشير صاحب معاوية لعين التمر وفيها يبدي عذره ، ويستنهض الناس لنصرته قوله ( عليه السلام ):(( فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الاْمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاْسَرِّ ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاْدْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)).() ويوجه الشافعي دلالة لفظ [ جرجر] في موضع آخر غير الخطبة فيقترب من دلالة جرس التكرار في الصوت فيقول : (( جرجر فلان الماء في حلقه : إذا جرعه جرعاً متتابعاً يُسمع له صوت، والجرجرة : حكاية ذلك الصوت)).() أما توجيه دلالة [ جرجر ] في الخطبة السابقة فأحسن توجيهها البحراني في شرحه ، يقولُ : (( الجرجرة : ترديد صوت البعير في ضجرتهِ عن عسفه .. استعارَ لفظ الجرجرة لكثرة تمللهم وقوة تضجرهم من ثقلِ مايدعون إليه ، ولما كانتْ جرجرة الجمل الأسرّ أشد من جرجرة غيره لاحظَ شبه ما نسبهُ إليهم من التضجر بها… كل ذلك ذم وتوبيخ يستشير به طباعهم عما هي عليه من التثاقل عن ندائه والتقصير في إجابة دعائه)).() أيضا من دلالة التكرار لفظة [ زَعْزَعَ ] التي وردتْ في خطبة له ( عليه السلام) بعد انصرافه من صفين يقولُ فيها:(( وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ ))()
والزعزعة في اللغة :(( تَحْرِيكُ الرِّيحِ الشجرةَ ونَحوَها، قَالَه الليثُ، يُقَال: زَعْزَعَت الريحُ الشجرةَ زَعْزَعَةً، وَكَذَا زَعْزَعَتْ بهَا، وأنشدَ ثعلبٌ: أَلا حَبَّذا ريحُ الصَّبا حِين زَعْزَعَتْ … بقُضْبانِهِ بعدَ الظِّلالِ جَنُوبُ.. وكلُّ تحريكٍ شديدٍ: زَعْزَعَةٌ، يُقَال: زَعْزَعَه زَعْزَعَةً، إِذا أرادَ قَلْعَه وإزالته، وَهُوَ أَن يُحَرِّكَه تَحْرِيكاً شَدِيدا… ورِيحٌ زَعْزَعٌ، وزَعْزَعان، وزَعْزَاعٌ، وزُعازِع .. أَي تُزَعْزِعُ الأشياءَ وتُحرِّكُها)).() وردَ في شرح النهج للقزويني أثناء توجيه دلالة لفظة الزعزعة الواردة في الخطبة: ( وتزعزعت أي: اضطربت اسطوانات اليقين ، ومعنى اليقين هنا هو العِلم الحاصل عن نظر واستدلال).() ومعنى هذ أنّ الزعزعة هي تشبه حركة فعلها. ومن دلالة التكرار أيضا لفظة [ تعتعَ ] الواردة في كلام له (عليه السلام) يجري مجرى الخطبة وفيه يذكر فضائله قاله بعد وقعة النهروان يقولُ فيه : (( فَقُمْتُ بِالأمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَعْتَعُوا ، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللهِ حِينَ وَقَفُوا، وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلاَهُمْ فَوْتاً ، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا ، وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا ، كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ ، وَلاَ تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ))() والتعتعة في اللغة:(( التَّاءُ وَالْعَيْنُ مِنَ الْكَلَامِ الْأَصِيلِ الصَّحِيحِ، وَقِيَاسُهُ الْقَلَقُ وَالْإِكْرَاهُ. يُقَالُ تَعْتَعَ الرَّجُلُ إِذَا تَبَلَّدَ فِي كَلَامِهِ. وَكُلُّ مَنْ أُكْرِهَ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَقْلَقَ [ فَقَدَ] تُعْتِعَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى يُؤْخَذَ لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» . وَيُقَالُ تَعْتَعَ الْفَرَسُ إِذَا ارْتَطَمَ. قَالَ: يُتَعْتِعُ فِي الْخَبَارِ إِذَا عَلَاهُ … وَيَعْثُرُ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُقَالُ: وَقَعَ الْقَوْمُ فِي تَعَاتِعَ، أَيْ أَرَاجِيفَ وَتَخْلِيطٍ)).() وردَ في شرح البحراني للنهج:( التعتعة الاضطراب الحاصل في الكلام عند الحصر في أمرٍ ما ، ومعنى قوله ونطقْتُ حينَ تعتعوا إشارة إلى مَلكة الفصاحة المستتبعة لملكة العِلم : أي نطقْت في القضايا المهمة والأحكام المشكلة والمقاول التي حصرتُ فيها بلغاؤهم ، فكنى بنطقه عن تعتعتهم أي عن فضاحتهم وعيّهم ).() ومن دلالة تكرار صوت الكلمة أيضا لفظة [ كَشيش ] التي استعملها ( عليه السلام ) في كلام لأصحابه في صِفين يقولُ فيه:(( وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ ، لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً، وَلاَ تَمْنَعُونَ ضَيْماً. قَدْ خُلِّيتُمْ وَالطَّرِيقَ، فَالنَّجَاةُ لَلْمُقْتَحِمِ، وَالْهَلَكَةُ لَلْمُتَلَوِّمِ)).() فالكشيش ( الصوت يشوبه خور، مثل الخشخشة ، وكشيش الأفعى : صوتها من جلدها لا من فمها ، وقد كَشت تكش ، قالَ الراجز: كشيش أفعى أجمعَتْ لعض وهي تحك بعضها ببعض ، فهو هنا يقرع أصحابه بالجبن والفشل ، ويقولُ لهم : لكأنّي أنظر إليكم وأصواتكم غمغمة بينكم منَ الهَلَعِ الذي قد اعتراكم ، فهي أشبه شيء بأصواتِ الضِّباب المجتمعة).() ( فصوت اللفظة يحاكي معناها، فتكرار الشين أربعُ مراتٍ في فعلٍ ومصدرهُ المؤكَد يوحي بالأصوات والضجيج غير المجدي).() وفي لفظةٍ أخرى وردَ فيها صوت القاف مكررا يحاكي معنى اللفظة في كلامٍ له (عليه السلام) وقد جمعَ الناس وحضّهم على الجهاد، فسكتوا ملياً، فقال(عليه السلام) : (( مَا بَالُكُمْ أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ؟ فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرتَ سرنا معك فقال(عليه السلام):(( مَا بَالُكُمْ! لاَ سُدِّدْتُمْ لِرُشْد! وَلاَ هُدِيتُمْ لَقَصْد! أَفِي مِثْلِ هذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ؟ إِنَّمَا يَخْرُخُ فِي مِثْلِ هذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَذَوِي بَأْسِكُمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ، وَالْمِصْرَ، وَبَيْتَ الْمَالِ، وَجِبَايَةَ الأرْضِ، وَالْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّظَرَ في حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ، ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَة أَتْبَعُ أُخْرَى، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِي الْجَفِيرِ الْفَارِغِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَا، تَدُورُ عَلَيَّ وَأَنَا بِمَكَاني، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا . هذَا لَعَمْرُ اللهِ الرَّأْيُ السُّوءُ)).() ومعنى التقلقل هنا:( الحركة في اضطراب).() ، كذلكَ أنَّ ( التكرار الحاصل في صوت القاف هنا يوحي بمحاكاة الحدث الذي هو في صددهِ ).() وفي خطبة له (عليه السلام) في الاستسقاء وردَ فيها تكرار النون ، قوله (( اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَهَامَتْ دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ في مَرَابِضِهَا ، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا، وَالحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا. اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الاْنَّةِ ، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ! )).() ( ومعنى الآنّة والحانّة الشاة والناقة ، وأصل الأنين صوت المريض وشكواه وتضجره من الوصب ، يُقال أنْ يئنُ أنينا وأنانا وتأنانا ).()( وتكرار النون المشددة هنا في هذا الموضع تحاكي أنين المتألمين).() فالإمام ( عليه السلام ) يختار الألفاظ الأكثر وقعا في النفس ، فيصلها إليهم بكل يسر عن طريق السَّمع ، فيُسمع لهذه الكلمات جرسا مجلجلا يوقظُ الأسماع من غير تكلف، ويقرع الألبابَ من دون توجه عن طريق اختيار الكلمات الجزلة ذاتَ الرنين المؤثر.