حُسن الابتداء في القصيدة العربية بين تعدد المصطلح وتقارب المفهوم
أ.م.د. فلاح عبد علي سركال
جامعة كربلاء/ كلية التربية/ قسم اللغة العربية
 
تباينت تسمياتُ النُّقادِ والبلاغيين العرب التي أُطلقت على الجزء الأول من القصيدة العربية، فقد أطلق ابن المعتز(ت296هـ) مصطلح (حسن الابتداءات) ، واستشهد للابتداءات الجيدة بقول أبي تمام الطائي : [البسيط]
يا بُعدَ غايةِ دمعِ العين إذ بَعُدوا
قالُوا الرَّحيلُ غداً لا شكَّ قلتُ لهم

 
هي الصبابةُ طولَ الدهرِ والكمدُ
اليومَ أيقنتُ أنَّ اسمَ الحِمامِ غد

   أما أبو هلال العسكري (ت395هـ) فقد أورد مصطلح ( المبادئ ) ، وذهب إلى أنها « دلائل البيان »، ووسم ابتداء السموأل الذي قال فيه : [الطويل]
إذا المرءُ لم يدنَسْ من اللؤمِ عرضُهُ
وإن هو لم يحملْ على النفس ضيمَها

 
فـكـلُّ رداءٍ يرتديهِ جميـلُ
فليس إلى حُسنِ الثناءِ سبيلُ

« هو من أحكم الابتداءات » ، كذلك عدَّ ابتداء امرئ القيس: [الطويل]
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

 
بسقطِ اللوى بين الدخولِ فحوملِ

« من أحكم ابتداءات العرب »؛ لأنه بكى واستبكى ، ووقف واستوقف ، وذكر الحبيب والمنزل في نصف بيت.
    مثلما أورد القاضي الجرجاني (ت366هـ) مصطلح (الاستهلال) ، وذهب إلى أن « الشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص وبعدهما الخاتمة ؛ فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور، وتستميلهم إلى الإصغاء »، في حين أورد ابن رشيق (ت456هـ) مصطلحي( المبدأ ، وحسن الافتتاح ) ، وذكر أنه « قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر: لقد طار اسمك واشتهر، فقال: لأني أصبت مقاتل الكلام وقرطست نكت الأغراض بحسن الفواتح … لان حسن الافتتاح داعية الانشراح ، ومطية النجاح »، مثلما أورد أسامة بن منقذ (ت584هـ) ما يتعلق ببداية النص تحت مصطلح (المبادئ والمطالع)، وقال في هذا الصدد : « أحسنوا الابتداءات فأنها دلائل البيان ».
     أما ابن الأثير(ت637هـ) ويحيى العلوي(ت749هـ) فقد ذكرا مصطلح (المبادئ والافتتاحات) ، واشترط ابن الأثير أن تكون في هذه الافتتاحات قرينة دالة على الغرض المنشود، أما العلوي فقد قرر أن الافتتاحات الجيدة تشتمل على « نكت جمة ، ولطائف عجيبة »، مثلما أشار حازم القرطاجني(ت684هـ) إلى بداية القصيدة تحت مسمى ( الاستهلالات ، والمطالع )، وذهب إلى أن تحسينها والتأنق فيها أحسن شيء في صناعة الشعر؛ لأنها « الطليعة الدالة على ما بعدها ، المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة ، تزيد النفس بحسنها ابتهاجاً ونشاطاً… وربما غطّت بحسنها على كثير من التخوّن الواقع بعدها إذا لم يتناصر الحسن فيما وَلِيَها »، كذلك ذكر الخطيب القزويني بداية النص تحت مصطلح (الابتداء) وأوجب على المتكلم أن يتأنق فيه ؛ لأنه « أول ما يقرع السمع ، فإن كان ذكرنا أقبل السامع على الكلام فوعي جميعه، وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه »، كذلك أضاف ابن معصوم(ت1120هـ) مصطلح (التسهيم)، وهو عنده « أن يؤسس الكلام على وجه يدل على بناء ما بعده ، ومناسبته للمعنى اللغوي ظاهرةً».
أمّا مصطلح (المقدمة) ، أو(مقدمة القصيدة) فلم يذكره أحدٌ من القدماء ، بل هو مما أبدعه المحدثون ، ولكنه يُرادف من حيث الدلالة مصطلح ( الابتداء ) عند ابن قتيبة في قوله المتقدمة : « إن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار»، ويرادف أيضاً مصطلح ( البسط ) عند ابن رشيق في قوله : « ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب ، بل يهجم على ما يريده مكافحة ، ويتناوله مصافحة »؛ ليكون مصطلح (المقدمة) بهذا المفهوم مصطلحاً شاملا في الدلالة والمضمون على جميع المصطلحات التي ذكرها القدماء ؛ ذات الصلة المباشرة ببداية القصيدة العربية ؛ لأنَّ (المقدمة) في اللغة تعني من كلِّ شيءٍ أوله ، ومن الجيش طائفة منه تسير أمامه ، ومنه يقال مقدمة الكتاب ، ومقدمة الكلام.
    ومما تجدر الإشارة إليه أن جميع المصطلحات والمسميات التي ذكرها البلاغيون والنقاد لم يتفقوا في بعض منها على عدد الأبيات التي تشغلها في أول القصيدة ، فأشاروا إلى أن منها ما يتعلق بالبيت الأول من القصيدة كمصطلح (الابتداء) ، و(الاستهلال) مع اشتراط وجود قرينة تدل على غرضها ، ومنها ما يتعلق بالمعنى الأول المكتمل في القصيدة سواء أكان مكتملا في البيت الأول أو مع ما يليه من أبيات ، كمصطلح (الافتتاح) ، ومنها ما يُعد موضع خلاف بين تعلقه بالبيت الأول من القصيدة ، أو بمجموعة الأبيات الأولى منها ، كمصطلح (المطلع) ، الذي يذهب فيه بعضهم إلى أبعد من ذلك في تحديد مفهومه ، إذ يرى أنه ليس البيت الأول ، بل ولا البيت الكامل ، وإنما أول البيت فقط ، ولكن انتهى أخيراً إلى الأذهان ، أن المطلع هو البيت الأول من القصيدة دون غيره .
    وعلى كل حال فالبحث ليس مَعنيّاً بتحديد ماهية كل مصطلح من هذه المصطلحات على نحو الدقة والتركيز؛ لأنها بمجموعها تتعلق بالجزء الأول من النص الشعري، ولاسيما مقدمة القصيدة ، مع احتفاظ بعض منها بخصوصية التناول والدلالة مثلما أشرنا إليه آنفاً ، فضلاً عن أنّ مصطلح (مقدمة القصيدة) يستغرق جميع هذه المصطلحات، ويُشكل رديفاً لبعضٍ منها ، ويشتمل على وظائفها الفنية والمعنوية ، وهو بذلك يمثل المصطلح الأوسع شمولاً – من حيث الدلالة – على  جميع المسميات التي ذكرها البلاغيون والنقاد العرب .
ومن هنا يمكن أن نعرّف المقدمة بأنها الجزء الأول من القصيدة، المشتمل على جميع الموضوعات الممهدة لغرض القصيدة الرئيس.
 

شارك هذا الموضوع: