خرق النحويين من البصريين والكوفيين للأصول التي قعدوا عليها القواعد
اعداد الطالبة :هديل عبد الأمير حسوني حبيب / دكتوراه لغة عربية / لغة
إن النحو العربي لم يقعد للعربية كما يتحدث أصحابها وإنما قعد لعربية مخصوصة تتمثل في مستوى معين من الكلام هو في الأغلب شعر أو أمثال أو نص قرآني، أي أنه لم يوسع دراسته ليشمل اللغة التي يستعملها الناس في شؤون حياتهم، وإنما قصره على درس اللغة الأدبية ، فقصر الدرس النحوي على هذا المستوى من اللغة أفضى بهم إلى وضع قواعد العربية على أساس من النصوص المختارة مما أبعدهم عن الاستعمال الشائع في هذه اللغة، فخرقوا القواعد، وخالفوا ما وضعوه من قواعد ؛ فاضطروا إلى اللجوء إلى التأويل والتقدير ،والتفسير ، وتقديم المسوغات بشتى الطرق حتى تعود هذه الاستعمالات الى طريق الرواة واللغويين في نقلهم للنصوص ؛ لهذا اصطدم النحاة باستعمالات تخرج عن القاعدة فكان هذا التعارض بين المعيار وبعض النصوص سبباً من أسباب ظاهرة الخلاف النحوي والخرق، ومن الأمثلة أيضا على المسوغات التي تجيز خرق القاعدة ، الابتداء بـالنكرة فالأصل وقاعدة الباب تقر أن المبتدأ اسم معرفة يقع في أول الجملة والخبر يقع بعده، ولكن وجد في الاستعمال اللغوي أمثلة استعمالية ابتدىء فيها بنكرة، فكان لكل حالة مسوغ يجيز الابتداء بالنكرة، ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في المثل العربي (شرّ أهرٌ ذا ناب) إذ جاء المبتدأ نكرة وهو شر والسبب عند ابن يعيش هـو أن المثل محمول على معنى (ما أهر ذا ناب إلا شر). فيقول: “فالابتداء بالنكرة فيه حسن لأن معناه (ما أهر ذا ناب إلا شر) فالابتداء هنا محمول على الفاعل وجرى مثله فاحتمل” . فنلاحظ أن ابن يعيش يحاول إرجاع هذا المثل الذي ابتدأ بنكرة إلى القاعدة التي تمنع الابتداء بـالنكرة إلا إذا اعتمدت على نفي أو استفهام، فهو يحمل هذا المثل على معنى النفي، ولكنه في الوقت نفسه يحمله على معنى الفاعل، وكأنّه لا يريد التصريح بأن الجملة فعلية نظراً لثبات القاعدة التي تمنع تقدم الفاعل على الفعل، فحملها على معنى الفاعل . ويتبدى لي أن هذا المثل جملة محولة عن أصل فعلي فأصل المثل (أهرّ شرٌ ذا ناب ولكن قدم الفاعل للأهمية لأن الغرض في هذا المثل لـيس الإخبار عن شر)و إ نّما يريدون أنّ ارتفاع صياح الكلب من شر داهمه) فقدم الفاعل للأهمية على حد قول سيبويه : “إنّ العرب إذا أرادت الاهتمام بالشيء قدمته” .
ومن الشواهد الأخرى، قول حسان بن ثابت:
كَأَنَّ سَبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء ()
فالشاهد في هذا البيت، نصب مزاجها على أنه خبر (يكون) وهـو معرفة ورفع (عسل) على أنه اسمها، وهو نكرة والمسوغ هنا، على حد ما أورده ابن يعيش كان (المزاج) مضافا إلى ضمير سبيئة وهي نكرة، وضمير النكرة لايقيد المخاطب أكثر ما يفيد ظاهره وإن كان الضمير معرفة من حيث يعلم المخاطب أنه عائد إلى المذكور، إلا أن المذكور غير متميز فكان حكمه حكم النكرة مع أن (عسل) (وماء) جنسان ولا فرق بين تعريف الجنس وتذكيره من حيث لم يكن لأجزاء اللفظ لفظ يخصهم، بل يعبر عنه بلفظ الجنس، فإذا لا فرق بين قول: (عسل) و (العسل) .ومنها مسألة تقدم التمييز على عامله، فذهب أكثر البصريين إلى انه لا يجوز، أما الكوفيون فاتفقوا بأن قالوا الدليل على جواز التقديم النقل والقياس” أما النقل فقد جاء في كلامهم قال الشاعر() :
أتهجر سلمى بالفراق حبيبها وما كان نفساً بالفراق تطيب
فتقدم التمييز “نفسا” على العامل به “تطيب”. أما القياس فلأن هذا العامل فعل متصرف جاز تقديم معموله علي الأفعال المتصرفة، أما البصريون فكانت حجتهم انه بمعنى الفاعل فالتمييز ( هو الفاعل لفظاً، فلا يجوز تقديمه، فبعد النظر إلى هذه المسألة، فقد أجاز النحاة تقديم التمييز على فعله، إذا كان متصرفا، وذلك بعد أن وجد في الاستعمال ما خرج القواعد كما في الشاهد السابق فلجأوا إلى تسويغ هذا الخروج ورده إلى القاعدة وذلك عن طريق المسوغات الآتية:
أولاً: التمييز (فضله) والفضلة قد يتصرف بها تقديما وتأخيراً.
ثانياً : قياس التمييز على الحال التي قد يجوز أن يتقدم صاحبها.
ثالثاً : قياس التمييز حملاً على معنى الفاعل.
فنلاحظ أن معارضة وتصادم الاستعمال مع القاعدة النحوية هو مقياس المسوغات في النظر إلى الصواب النحوي، فهل الصواب ما قالته العرب أياً كان…؟؟ أم القاعدة المستخرجة من كلام العرب، الكثير المطرد. ولعل الصواب والاحتكام إلى القواعد لا إلى الاستعمالات؛ لأن القواعد تؤدي إلى انسجام في النظام النحوي، لأنها تتصف بالاطراد والشمول، أما الاستعمالات وحدها والركون إليها، قد يؤدي إلى شيء من الفوضى في بناء الكلمات والجمل. إذا فالمسوغات النحوية، من أسباب ظاهرة الخلاف النحوي وهي ظاهرة معروفة في دراسات اللغات الطبيعية، كما قال نهاد الموسى: “الخلاف النحوي في معظمه اختلاف على العلل علل القواعد ، لا على القواعد في ذاتها” لأنها طرائق في التفكير النحوي، ومسائل مع المادة النحوية والنصوص التي بنيت عليها، وهي بهذا مستوى متقدم من مسوغات النحو، يأتي بعد مستوى الأحكام والأنظار المتفق عليها .
ومن الخرق عند النحاة خروج بعض الأمثلة الاستعمالية من النصب إلى الرفع والخروج من الرفع إلى النصب هو الأقل في الكلام العربي ويعود هذا الخروج إلى أن الضمة علم الإسناد في الجملة الاسمية والفعلية، وإن الفتحة يصار إليها في الفضلات كالحال والتمييز والمفعول له.
ومن هذه الأمثلة :رفع اسم إنّ : إن الأصل الاستعمالي للنواسخ أن تدخل على الجملة الاسمية فتنصب الأول ويسمى اسمها ، وترفع الثاني ويسمى خبرها ، ولكن وجد في الاستعمال اللغوي ما خرج على هذا الأصل، ومن ذلك قوله تعالى ((َ إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ )) (طه:63)ولقد تعددت المسوغات والمجوزات لهذه الآية فمن المفروض أن يكون اسم (إن) منصوب ولكنه ورد في هذه الآية مرفوعاً. فمن النحاة من سوغ ذلك على أن (إنّ) بمعنى (نعم) على أن (هذان) مبتدأ و(الساحران) الخبر، ومنهم من رأى أن (إن) مخففة ولا تعمل ومنهم من رأى أن اسمها ضمير الشأن المحذوف والجملة الاسمية خبر (إن) ومنهم من رأى أن(هذان) اسمها على لغة من يلزمون المثنى الألف ونلاحظ كيف فسر النحاة هذا الخروج عن طريق تقديم المسوغات بأساليب مختلفة ومما يمكن عده من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (): “إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، المصورون”، ففي هذا الحديث خروج على الأصل من نصب “المصورون” على اسم (إن) إلى رفعها، وقد سوغ لها النحاة بطرق مختلفة، فقيل أنها خبرها على أن اسمها ، من أشد على زيادة (من) والتقدير (إن اشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون وقيل أيضا إن اسم (إن) وهو ضمير الشأن المحذوف. ومن الخرق عندهم أيضًا خروج المفعول به من النصب على المفعولية إلى الرفع على الخبر فالأصل الاستعمالي للمفعول به أن يأتي من صوبا ولكنه في بعض الاستعمالات خرج إلى الرفع ومن الأمثلة على ذلك:خروج المفعول به من النصب إلى الرفع في جواب السؤال ومن ذلك قول رؤبة : – جواباً للسؤال: كيف أصبحت ؟ : ( خيرٍ عافاك الله)، (على أن التقدير على خيرٍ) فحذف حرف الجر وبقي عمله وهذا الجر يفسر ما ذهب إليه سيبويه من حيث أن (كيف) ظرف في محل النصب بمعنى في أي حال أو على أي حال () .وقيل إن حذف حرف الجر وبقاء عمله لا يصار إليه إلا فيما يكثر استعماله وإن قول رؤبة السابق يعد من باب الشاذ الذي لا يقاس عليه.ويظهر لي أن اللجوء إلى مثل هذا الخروج يخلصنا من هذا الحذف غير المقيس على أن النصب هو الأصل فهو يسهم إلى جلب الانتباه إليها وينطبق على ذلك قراءة أبي عمر بن العلاء : “ويسألونك ماذا يُنفقون قُل العفوَ” (البقرة :219)، برفع (العفو) على أن (ما) اسم استفهام مبتدأ خبره ذا الموصولة وصلتها، ولذلك وقع جوابها مرفوع. ولم يجعلوا ماذا اسم استفهام في موضع نصب على المفعول به لئلا يقع جوابها منصوباً (العفو) كما في قراءة غير أبي عمر من القراء السبعة، لتتحقق المناسبة بينها وبين جوابها وهو الأحسن عند النحاة كما في قراءة النصب والتقدير (أنفقوا العفو) وهذا هو الأحسن أي أن تكون في حالة الرفع (ذا) موصولة وفي حالة النصب ملغاة().ويرى عبد الفتاح الحموز أن ما ألجأ النحاة إلى توهم كون (ماذا) مركبة من (ما) و (ذا) الموصولة تحقيق المناسبة بين الجواب والسؤال رفعاً ونصباً ولا داعي إلى ذلك؛ لأن انزياح اللسان من النصب إلى الرفع يخلصنا من هذا التوهم ويحقق المناسبة، فضلا عن تحقيق معنى يكمن في توكيد الكلمة موضع الانزياح بجذب الانتباه إليها ().