دلالة الحرف  في سورة الفتح:
ا.د. فلاح رسول حسين
قال تعالى : (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا *  لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *  وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)) [الفتح : 1- 3].
   جاء الحرف (إن) في (إنا فتحنا) وقد أفاد التأكيد ، أما لِمن هذا التأكيد ؟ ولماذا ؟ فيجيبنا عن ذلك  ابن عاشور متحدثا عن الظرف الذي نزلت فيه الآيات المباركات قائلا : ((افتتاح الكلام بحرف ( إنّ ) ناشىء على ما أحلّ للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً بذلك ))[i]
     أما اللام في (ليغفر) فقد اختلف في توجيهها ، وسنذكر أهم التوجيهات وأشهرها ، قال الزمخشري : ((فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة : وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن يكون فتح مكة – من حيث إنه جهاد للعدوّ – سبباً للغفران والثواب …))[ii]. ويرى ابن عطية الآتي : ((فقوله : ( ليغفر) هي لام كي ، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك ، فكأنها لام صيرورة … ))[iii] . وقال الشوكاني :   ))اللام متعلقة بـ ( فتحنا ) ، وهي لام العلة . قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس يعني : المبرد ، عن اللام في قوله : ( ليَغْفِرَ لَكَ الله ) فقال : هي لام كي معناها : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً؛ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي ، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة … ))[iv].   ولصاحب الميزان رأي في ذلك ، وقد فسّر الامر ووجهه بناء على المعنى اللغوي للذنب والمغفرة  منطلقا من ذلك لدفع الإشكالات الواردة على بعض التفسيرات  قائلا : ((اللام في قوله: “ليغفر” للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من ذنبك و ما تأخر، و من المعلوم أن لا رابطة بين الفتح و بين مغفرة الذنب … و بالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف و هو مخالفة التكليف المولوي، و لا المراد بالمغفرة معناها المعروف و هو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، و المغفرة هي الستر على الشيء … و قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة و نهضته على الكفر و الوثنية فيما تقدم على الهجرة و إدامته ذلك و ما وقع له من الحروب و المغازي مع الكفار و المشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذا تبعة سيئة عند الكفار و المشركين و ما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة و مقدرة … غير أن الله سبحانه رزقه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الفتح و هو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم و أخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الذنب و آمنه منهم.))[v]
قال تعالى : (( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) [الفتح : 6] .
     في الآية المباركة نكتة جميلة في استعمال الواو مكان الفاء في (ولعنهم وأعد)  ، وكان الظاهر فلعنهم فأعد بالفاء في الموضعين لكنه عدل عنه للإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل في الوعيد به من غير اعتبار للسببية فيه  [vi].
قال تعالى : (( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا))[الفتح : 12].
   كرر ذكر (بل) في هذه الآية ، إذ ورد ذكرها في الآية السابقة ((سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) [الفتح : 11] ،  وأُعيد  – في الآية المستشهد بها – حرف الإبطال زيادة لتحقيق معنى البدلية كما يكرر العامل في المبدل منه [vii].
قال تعالى : (( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا)) [الفتح : 13] .
     ما دلالة دخول الفاء في (فإنا) ؟ ، جاء في إعراب الآية : (( ومن اسم شرط جازم ، أو موصولة في محل رفع مبتدأ … وجواب الشرط محذوف أي : فإنه كافر … وجملة الشرط والجواب خبر من ان كانت شرطية ، وجملة فإنا أعتدنا هي الخبر ان كانت موصولة ،  ودخلت الفاء لما في الموصول من معنى الشرط)) [viii] ، وقد تحدث المفسرون والنحويون عن دخول الفاء في الخبر ، قال الزمخشري : ((إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط جاز دخول الفاء على خبره، وذلك على نوعين الأسم الموصول والنكرة الموصوفة إذا كانت الصلة أو الصفة فعلاً أو ظرفاً  ))[ix] ، وذكر ابن عصفور شروط ذلك : (( ويجوز دخول الفاء في الخبر اذا كان المبتدأ اسما موصولا او نكرة موصوفة عامة ، بشرط ان تكون الصلة او الصفة ظرفا او مجرورا او جملة فعلية غير شرطية يكون الفعل منها على هيئة لا تنافي اداة الشرط ، وبشرط ان يكون الخبر مستحقا بالصلة او الصفة ))[x] ، وجعل المرادي هذه الفاء مع اقسام الفاء الزائدة على الرغم من المعنى الذي تؤديه مفصلا القول في ذلك  : ((وأما الفاء الزائدة فهي ضربان: أحدهما الفاء الداخلة على خبر المبتدأ، إذا تضمن معنى الشرط. نحو: الذي يأتي فله درهم. فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط، لأنها دخلت لتفيد التنصيص على أن الخبر مستحق بالصلة المذكورة. ولو حذفت لاحتمل كون الخبر مستحقاً بغيرها. فإن قلت: فكيف تجعلها زائدة، وهي تفيد هذا المعنى؟ قلت: إنما جعلتها زائدة، لأن الخبر مستغن عن رابط يربطه بالمبتدأ. ولكن المبتدأ لما شابه اسم الشرط دخلت الفاء في خبره، تشبيهاً له بالجواب. وإفادتها هذا المعنى لا تمنع تسميتها زائدة. وبالجملة فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط … ))[xi] . إذًا في الفاء   معنى ، نفتقد إليه بافتقادها ، ولا نميل إلى مصطلح الزيادة مع حسن ظننا بِمُطْلِقه .
قال تعالى : (( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا)) [الفتح : 15].
   ومجيء (لن) هنا للمبالغة في النفي قال أبو حيان ((وأتى بصيغة لن ، وهي للمبالغة في النفي ، أي لا يتم لكم ذلك ،إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها الا أهل الحديبية فقط))[xii]. وذكر غيره أن (لن) يفيد استمرار النفي[xiii] .
قال تعالى : (( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) [الفتح : 16] .
    في الآية (ستدعون إلى) وليس (ستدعون لـ)  وعُدي فعل ( ستدعون ) بحرف ( إلى ) لإفادة أنها مضمنة معنى المشي ، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف ( إلى ) وبين تعديته باللام نحو قولكَ : (دعوت فلاناً لما نَابني) [xiv]
قال تعالى : (( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)) [الفتح : 24] .
وقد عُدي ( أظفركم ) بـ ( على ) لتضمينه معنى أيَّدَكُم وإلا فحقه أن يعدى بالباء  [xv].
قال تعالى: (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ )) [الفتح من الاية : 27] . فذكرت (قد) للتوكيد وتوكيد الخبر بحرف (قد) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : (فأين الرؤيا؟ ) [xvi].اضافة الى دلالة التحقيق ، فمن ابرز دلالات (قد) التحقيق [xvii]
قال تعالى : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) [الفتح : 29].
   عن استعمال لام التعليل في (ليغيظ) ، ذكر الزمخشري رأيين في هذا التعليل قائلا : ((فإن قلت : قوله : ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار ) تعليل لماذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به ( وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ ) لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك))[xviii]. وكلا الرأيين صالح ومقبول وإن كان الأول أولى  والله أعلم وأعلى .
 
[i] التحرير والتنوير: 26/ 120-121 .
[ii] الكشاف : 4/334 .
[iii] المحرر الوجيز : 5/ 126 .
[iv] فتح القدير : 5/54.
[v] الميزان : 18/257-258.
[vi] ينظر: روح المعاني : 14/ 115 .
[vii] ينظر: التحرير والتنوير: 26/138.
[viii]  اعراب القرآن الكريم وبيانه: 7/ 226-227.
[ix] المفصل في صنعة الاعراب : 56. وينظر: شرح الرضي: 1/268.
[x] المقرب: 93.
[xi] الجنى الداني: 70-71.
[xii] البحر المحيط: 9/489.
[xiii] ينظر :التحرير والتنوير:26/ 138.
[xiv] ينظر: المصدر نفسه : 26/ 144.
[xv] ينظر: المصدر نفسه: 26/ 157.
[xvi] ينظر: المصدر نفسه: : 26/ 167.
[xvii] ينظر : الجنى الداني : 255.
[xviii] الكشاف : 4/350.

شارك هذا الموضوع: