تركيا اليوم محط أنظار كافة الأمم ، فنهضتها في مختلف مجالات الحياة يستدعي الدهشة والإعجاب ولاسيما فيما يتعلق بجانب التربية والتعليم، فمنذ سقوط الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية التركية عام 1923 أخذت تركيا تخطي الخطوة تلوي الأخرى من اجل مواكبة حركة النهوض والتطور التي شهدها العالم الغربي ،لذا أخذت تركيا منذ تولي مصطفى كمال أتاتورك رئاسة الجمهورية الجديدة في ذلك العام تتجه نحو الغرب ،وتسير بسرعة مدهشة في اقتباس ما تريده من المدنية الغربية لاسيما بعد تأخر الدولة العثمانية أكثر من قرنين من الزمان عن الغرب ، لذا أرادت تركيا الجديدة أن تجاري الأمم ، وعليه اصدر مصطفى كمال أتاتورك العديد من القرارات التي كانت ذات اثر كبير في المجتمع التركي لاسيما في ميدان التربية والتعليم.
بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 على يد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك عمل على إلغاء التكايا والزوايا والطرق الدينية التي كانت أساس الأماكن العلمية والتعليمية في البلاد ، كما قام بتغريب التعليم واللغة التركية ، وعمل على توحيد المدارس وإلغاء الحروف العربية واستبدالها بحروف لاتينية ، فاصدر قانون توحيد المدارس عام 1924 والذي تم فيه جمع المؤسسات التعليمية والدينية وغير الدينية في وزارة المعارف ، وأوكل إلى الوزارة ذاتها إنشاء كلية الإلهيات لتختص بالأمور الدينية ، فضلا عن إنشاء مدارس خاصة لتخريج الأئمة والخطباء ، وكان هدف مصطفى كمال أتاتورك من ذلك هو فك ارتباط تركيا بالإسلام واللغة العربية.
بدأت نغمة جديدة بتعليم اللغة التركية لاسيما بعد ان سمى مصطفى كمال أتاتورك نفسه (أبو الأتراك) والذي لم يكتف بإغلاق المدارس الدينية فحسب ،بل قطع مصادر تمويلها التي تعد المصدر الاقتصادي الرئيسي لتلك الطبقة ، ونتيجة لذلك سيطرت الجهات الحكومية بشكل تام الى كل جوانب المؤسسات الدينية التعليمية والعاملين فيها .
لقد اتخذت الجمهورية (الأتاتوركية) من التعليم الأداة الأساسية لخلق نخب يقع على عاتقها تحديث تركيا ، ولذلك أخضعت الدولة التعليم الحكومي القومي تحت سلطاتها وبإشراف وزارة المعارف ، مع تأسيس نظام تعليمي علماني في مختلف أنحاء البلاد ، كما سعت الدولة الحديثة لنزع الشرعية من التعليم الديني وإغلاق مدارسه وكلياته وعده من الخرافات التي قوضت الشعب التركي لقرون عديدة.
لذلك كلف مصطفى كمال أتاتورك العلماء والأدباء لتأسيس ( الجمعية اللغوية ) ، لإبراز اللغة التركية وترقيتها إلى مكانة رفيعة بين اللغات العالمية الأخرى، وساهمت الجرائد في الترويج للغة الجديدة باعتبارها( لغة الشمس) و ( ام اللغات)، كما انشأ مصطفى كمال أتاتورك جمعية للتاريخ القومي التي ترأسها بنفسه واشترك في بحوثها ومناقشتها ،وقرر أن تنوب عنه لرئاسة الجمعية عند غيابة ابنته بالتبني (بايان عفت) أستاذة التاريخ في ثانوية (ليسه غازي) في انقره ، وقد وضعت هذه الجمعية مؤلفتها في التاريخ من أربع مجلدات لتدرس رسميا في مدارس الثانوية ، كما تأسست في انقره مدرسة عليا للتاريخ والجغرافية واللغات وتختص في مجال البحوث العلمية التي تغذي الروح القومــية التركية، واستكمالا لتعلم الحروف الجديدة أمر مصطفى كمال أتاتورك بعدم إطلاق سراح الموقوفين المنتهية مدة محكوميتهم حتى يتعلموا الحروف الجديدة ، بل ذهب الى أكثر من ذلك حينما أمر بإطلاق سراح كل مسجون لم تنته مدة محكوميته إذا تعلم القراءة والكتابة باللغة الجديدة ، كما اصدر عام 1928 قانون تغير الحروف ، وأصدرت وزارة المعارف تعليماتها الى المدارس بإلغاء الهيئات العلمية والتنفيذية السابقة في الولايات والاقضية ، كما أغلقت مدارس الشريعة ومدارس الوعظ والإرشاد والمدارس الأجنبية الخاصة ،ومنعت المدارس من تعليم الدين بأي شكل من الأشكال ، كما طالبت بانخراط النساء في سلك التعليم ونادت بفتح مدارس في القرى والقصبات والأحياء وإمدادها بالقاعات والمعلمين وأدوات الدراسة ،وأجازت اتخاذ المساجد ودوائر الحكومة والمقاهي أماكن للدراسة، وألزمت كل معلم بتعليم الحروف الجديدة لـ (30-50) شخصا ، كما أوجبت هيئات المعارف القيام بمهمة ومراقبة وتفتيش هذه المدارس ، وألزمت كل مؤسسة مالية وصناعية بتهيئة أسباب تعليم موظفيها الحروف الجديدة .
كانت خطوة الانقلاب على الحروف من العربية إلى اللاتينية خطوة حاسمة في تاريخ تتريك اللغة لقطع رابطة الشعب التركي بثقافته الأمة العربية ، الأمر الذي أدى الى ردة فعل لبعض مكونات الشعب التركي على تلك الخطوات والقوانين لاسيما من قبل الإسلاميين الذين رفضوا إغلاق زواياهم وتكاياهم، ومنهم أصحاب الطرق (النورسية والتيجانية والرفاعية والقادرية والنقشبندية) وغيرها ، الأمر الذي أدى إلى استمرار بعض تلك التكايا والزوايا بعملها ووصل عدد مدارسها الى حوالي ( 3000) مدرسة اندرجت تحت اسم ( اتحاد مدارس القران)، كما أطلقوا عليها اسم ( اتحاد رابطة مساعدة طلاب مدارس ) ( القران ودور التعليم ).
بحلول عام 1930 أصبحت علمانية الابتدائية إجبارية ، وفي عام 1931 ألغيت الدروس الدينية من المدارس المتوسطة.
هكذا يمكن القول بان جميع الأعمال التي قام بها مصطفى كمال أتاتورك على مختلف الأصعدة خلال السنوات (1923-1931 ) كانت تتعلق بالدين والتعليم – الجزاءان اللذان لا ينفصلان – بصورة مباشرة وغير مباشرة بهدف إبعاد تركيا عن محيطها الإسلامي والتقرب من الدول الغربية