دَلالةُ الوزنِ الصرفيِّ ، والوظيفةِ النحويةِ لكلٍّ من (أَسْوَد ، ومُسْوَدَّة) في ضوءِ السياقِ القرآنيِّ:
مقالٌ بقلمِ الباحثةِ: زهراء شاكر محمد الوائليِّ():
يُطلَقُ (السوادُ) لونًا على كلِّ شيءٍ ماديٍّ مرئيٍّ يُشاهَدُ بالعَينِ ، ويوصَفُ باللسانِ أَوِ الكتابةِ. وبهذا المنظورِ نقرأُ قولَه تعالى: وكُلُوا واشرَبُوا حتى يتبيَّنَ لكُمُ الخيطُ الأَبيضُ من الخيطِ الأَسودِ من الفجرِ [البقرة/187].
وقد جاء لفظُ (الأَسودِ) في هذا النصِّ القرآنيِّ الكريمِ كنايةً عنِ الليلِ كما جاء لفظُ (الأَبيضُ) المقابلِ له كنايةً عن النهار. و(الليلُ ، والنهارُ) ممَّا يُرِى ويُشاهَدُ بالعَينِ. و(يَتَبيَّنَ) من (التبيُّنِ) وهو الظهورُ والانكشافُ الذي تراهُ العينُ مشاهدةً وحضورًا.
وورد لفظُ (أَسْوَد) بوزنِ (أَفْعَل) وهو واحدٌ من أَوزانِ (الصفةِ المشبهةِ) الدالِّ على (اللونِ). ولونُ الشيءِ ثابتٌ عليه ، معروفٌ ظاهرٌ به ؛ لذا وافقَ وزنُ (أَفْعَل) الدالُّ على (اللونِ) هنا ثبوتَ الوصفِ الذي عليه الليلُ فهو (أَسودُ) لانعدامِ الشمسِ فيه إِذ تأتي مع النهارِ الذي يُوصَفُ ببياضِ اللونِ انكشافًا وظهورًا.
وجاء لفظُ (الأَسودِ) في هذا النصِّ القرآنيِّ في التركيبِ النحويِّ صفةً تتبعُ موصوفَها (الخيطِ) ؛ فوزنُها (أَفْعَلُ) ، ودَلالتُها (صفةٌ مشبَّهةٌ) ، وموقعُها الإِعرابيُّ وظيفةً (صفةٌ) لاصقت موصوفَها ، وانمازَ هو بها دَلالةً على ثباتِ هذه الحالةِ تكوينًا فلَكيًّا ، ومعاقبةً زمنيةً يستطيعُ الصائمُ بموجِبِ ثباتِها أَن يتخِذَها دليلًا لتحديدِ وقتِ إِمساكِه وصلاةِ الفجرِ معًا إِيذانًا بالصيام.
والأَرجحُ أَنَّ السياقَ قدِ استحضرَ لفظَ ( الأَبيضُ ، والأَسودِ) صفةً للخيطِ الذي جُعِلَ دليلًا لمَيزِ النهارِ من الليلِ بحسبِ لونِ كلٍّ منهما لِمَا للخيطِ من دِقةٍ في الجُرمِ تكادُ تَعسُرُ رؤيتُه ولكنها تجِبُ اطمئنانًا ؛ فكذلكَ الليلُ من النهارِ في ذروةِ الصيامِ مما يَجِبُ الاطمئنانُ إِليه وإِن شَقَّ على ناظرٍ ؛ فمصيرُ الصائمِ بينَ صحةِ صيامِه من عدمِها موكولٌ في أَساسِه إِلى سلامةِ الأَداءِ الشرعيِّ الرصينِ القويمِ من لحظةِ وجوبِ الإِمساكِ.
ويُطلَقُ (السوادُ) دَلالةً معنويةً يَصِفُ به المتحدِّثُ أَوِ الكاتبُ أَمرًا يُتصَوَّرُ فكرةً ، ولا يُشاهَدُ بالعين. وبهذا المنظورِ نقرأُ قولَه تعالى: وإِذا بُشِّرَ أَحدُهُم بالأُنثى ظَلَّ وجهُهُ مُسْوَدًّا [النحل/ 58].
وقد جاء لفظُ (مُسْوَدًّا) في هذا النصِّ القرآنيِّ كنايةً عن احتقانِ وجهِ الرجُلِ نتيجةَ التدفقِ الهائلِ للدمِ في شرايينِه ما يجعلُها ضيقةً جدًّا وكأَنَّ وجهَهُ سينفجِرُ نتيجةَ سماعِه بخبرِ ولادةِ مولودةٍ أُنثى له وهو يستنكِفُ أَن يسمعَ هذا الخبرَ الذي كان الواجبُ عليه أَن يتخذَه بِشارةَ خيرٍ له يُشرِقُ بها وجهُه ويَبْيَضُّ ، لا يَضيقُ ويَسْوَدُّ ؛ فحَوَّل بهذا الاحتقانِ البِشارةَ إِلى شؤمٍ.
و(مُسْوَدٌّ) على وزنِ (مُفعَلٌّ) بدلالةِ (الصفةِ المشبهةِ) أَيضًا لأَنه مشتَقٌّ من الفِعلِ (اسْوَدَّ) اللازمِ نحوَ (اسْوَدَّ الغيمُ) إِذا احتقَن ماءً زخَّارًا لـ(مُزْنةٍ) ستهطُلُ ؛ فـ(مُسوَدٌّ) يَدُلُّ على ثبوتِ هذا الاحتقانِ الشكليِّ الظاهريِّ للوجهِ إِذ يبقى مُحتَقِنًا كلَّما مرَّ عليه خبرُ مولودتِه وكأَنه صار مُعيَّرًا على وجهِ الدوامِ والثباتِ كلَّما صادف أَحدًا.
وقد ورد لفظُ (مُسْوَدًّا) هنا في تركيبٍ نحويٍّ وقع فيه خبرًا (مُسندًا) للاسمِ (وَجهُه) وهو (المسندِ إِليه) في تركيبِ الفعلِ (ظَلَّ) الناقصِ الذي يدُلُّ على البقاءِ والثبوتِ المتواصلِ لاتصافِ (المسندُ إِليه) بـ(المسند).
إِنَّ كلامَ اللـهِ تعالى الموثَّقِ عنِ الوحيِ الأَمينِ في القرآنِ الكريمِ حِصنُ دَلالةٍ مُبتَنِيةٍ على لفظِها وتركيبِها وسياقِها ، وحِصنُ لفظٍ وتركيبٍ وسياقٍ مُبتَنٍ على دلالتِه ؛ فلا يَصِحُ سوى كلٍّ منهما لكلٍّ منهما. والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين. وصلَّى اللـهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ وآلِه الطيبينَ الطاهرين.