رؤى سردية : تجليّات الشخصية في رواية القربان
للشخصية دور كبير في العمل الروائي فبها يبني الروائي رؤاه ويبرز محتوى الرواية و ايدولوجيتها، وهي الانسان المتكلم في الرواية و هي جوهرها ” ان موضوع الجنس الروائي الاساسي ( المميز) الذي يخلق اصالة هذا الجنس الاساسية هو الانسان المتكلم وكلمته ” . وشخوص غائب طعمة فرمان هي التي تخلق الاحداث وتحركها وتتفاعل معها وهذه الشخصيات تحمل اسماؤها الخاصة بها التي تجعلها معروفة على الصعيد الاجتماعي ، وهي تتميز بأبعادها النفسية والفكرية والجسدية . فالذي يتابع شخصيات رواية القربان لغائب طعمة فرمان يراها مزودة بأشياء كثيرة من واقع المجتمع ، فحديثها وتحركاتها تجعل القارئ يشعر وكأنها واقعية ،فالشخصية الأدبية تُعدّ تجسيدًا فنيًا للشخصية الواقعية، إذ إنها نتاج خيال الأديب. فالقارئ يسعى إلى رؤية شخصية نابضة بالحياة، تتسم بالصدق والحيوية، ليشعر من خلالها بجمال الحقيقة ودفء التجربة الإنسانية. وعندما يتفاعل القارئ معها ويقتنع بواقعيتها، ينشأ جو من الألفة والتعاطف، مما يسهم في تحقيق نجاح القصة .
يقول الدكتور عمر طالب لا تصور الرواية العراقية الواقعية واقع الحياة بخيره وشره تصويراً تسجيلياً ، وإنما هي تفهم الحياة و الأحياء وتفسيرها من وجهة نظر خاصة ترى منها الحياة ، ولكنها تتغذى من الواقع وتتزاوج وإياه في الشخصيات وتستمد منه مطلع الطريق لتنتهي الى خلق الأثر الذي هو في الظاهر يماثل الواقع ، ولكنه في الخفاء ينفصل عنه انفصالاً تاماً . وجوهر الواقعية في الرواية العراقية ليس ما يحدث بالفعل ، وإنما الكشف عن الدلالة الكبرى لما يحدث وليس تصويراً فوتوغرافياً ولا صدقا خلقيا بل التصوير الممكن والصدق الفني
فترجم الروائيون عبر متخيلهم واقع الانسان من خلال الشخصيات الروائية فاعلية و واقعية زخرت بها عوالمهم الروائية ، وقد تمكنت الشخصية في روايات غائب طعمة فرمان من الاستحواذ على مواطن التأثير وكل ذلك عبر متخيله الذي كان يسعى من خلاله الى نقل الواقع وهذا ما سنلاحظه في روايته(القربان ):
هي الرواية الرابعة لغائب طعمة فرمان ، ويرى الدكتور نجم عبد الله كاظم ان فرمان يدخل حقلا جديدا بتبنيه – ولو جزئياً_ للرمزية ، بل من الممكن القول ان الاختلاف الرئيس بين هذه الرواية واعمال الكاتب السابق في ما كشفته من مظاهر ومضامين رمزية ، في خلق الشخصيات وفي حبكتها وفي توقيت احداثها بالنسبة لمسيرة الأحداث داخل الرواية نفسها و في علاقتها بما تدل عليه خارجها بل وحتى في طريقة القص ــــ السرد ــــ والحوار ، وفي دلالة الرواية السياسية .
الرواية تتضمن موضوعاً رمزياً ذي دلالة سياسية ، والشخصية الروائية رسالة الروائي ورسوله في الوقت ذاته، وهي لا تكون مجرد خيال بل تستند إلى الواقع لكن الكاتب يقوم بعملية فك الارتباط مع الواقع ويتخلص من سطوة ذاته لكي يستطيع تصوير العالم من حوله واقناع المتلقي بما يقرأه . وفي رواية القربان يحدث صراع بين أشخاص الرواية من أجل ضمان الوصاية على فتاة صغيرة السن لم تصل إلى سن البلوغ ( مظلومة ) بعد موت والدها ( دبش ) الذي يتصف بالبخل واللؤم حيث حرمها من أبسط حقوقها حرصا منه على أمواله التي لم يكن ينفقها إلا على طعامه وشرابه، وذلك الذي تسبب له بداء مزمن . فكانت ابنته تسكن في بيت مظلم خالي من المؤونة بالرغم من الغنى المادي الذي يتمتع به والدها إلا أنه شحيح النفس لا ينفق من أمواله إلا على نفسه بل إنه بخل حتى على نفسه عندما أغراه أحد أصدقائه بالزواج وإستحسن الأمر إلا أنه تراجع عن ذلك عندما فكر بتكاليف الزواج وإن هناك من سيشاركه فيما يحصل عليه من أموال .
و (دبش ) هو شخصية خيالية أراد بها الكاتب الرمز الى امراً ما ربما هو رمز للضياع واليأس من الحصول على الشيء المُراد و(دبش) يضرب به المثل عند سائر العراقيين _ تقبض فلوسك من دبش _ إذا أصابهم اليأس من الحصول على الشيء المُراد.
أما( مظلومة ) فهي الشخصية الرئيسة في الرواية والتي تدور حولها الأحداث وصراع الشخصيات ،هي البنت الوحيدة ل (دبش ) والتي تحملت ظلمه لها بعدما توفيت والدتها التي كانت تتحمل الجزء الاكبر من المعاناة والظلم الى أن قتلها بسم دسه لها ؛ لكثرة شكوكه حولها وبقيت هذه الفتاة الصغيرة تحت سطوته متحملة طغيانه وجبروته وكان الجميع يتألم لحالها وهذا ما يتضح من الحوار بين شخصيات الرواية :
” قال ياسر : إذا كانت البنت لا تشم نسمة ، طوال حياتها محبوسة في البيت و الله يعلم ماذا يطعمها .
قال سلمان بحرقة : وتموت مظلومة مثل أُمها لا حول ولا قوة …لا أحد يدري دبش لا يسمح لأحد بدخول البيت إلا زنوبة الخبلة ”
فهي لم تكن تخرج من البيت المظلم ولا يدخل عليها أحد سوى تلك الفتاة البلهاء (زنوبة ) وكان الجميع يتمنى موته لبخلة وهمجيته. و عند موته نتيجة إعطائه جرعة زائدة من الأنسولين من قبل( مختار المضمد) بتحريض من ( ياسر ) أحد العمال في مقهى دبش ، يتصارع الجميع على تكفل ( مظلومة ) بالرعاية وكل منهم يدعي إنه الوصي عليها طمعا بما ورثته من أموال عن والدها الذي حرمها من العيش الرغيد في حياته وتركها لقمة مستساغة للطامعين بها عند وفاته فهي لا تحرك ساكنا ولا تتدخل في تحديد مصيرها ودفع الظلم عنها وحل النزاعات من حولها وربما أراد الكاتب بهذه الشخصية المتخيلة التي رسمها بدقة و وضوح لتعبر عن واقع الشعب العراقي فهي رمز للشعب أو رمز للعراق في فترة الستينات الفترة التي تم فيها التخلص من الحكم الملكي وإعلان الجمهورية ، والتصارع بين الأحزاب على السلطة وما عاناه الشعب من ويلات وتخلف وظلم وفقر في هذه الظروف . ،
ونقل لنا الكاتب ضعف هذه الشخصية وسلبيتها فهي لا تدافع عن حقها ولا تقوم بأي انفعال عدا ذرف الدموع و إطلاق الكلمات التي تخفف من حدة معاناتها .
وقد انتقى الكاتب أسماء ذات دلالة واضحة لواقع شخصياته في هذه الرواية فأوحت بجزء كبير من السمات النفسية والجسدية فمظلومة و دبش وصباح كل واحد منهم بدا اسم على مسمى . ( صباح ) هو الشاب الذي تقدم لخطبة مظلومة من والدها ( دبش ) وتتضح شخصيته من خلال الحوار الذي دار بينه وبين دبش ( رواية القربان ص45_46) لعل صباح هو الشخص الوحيد الذي كان صادقا مع مظلومة وكان يريد حمايتها والارتباط بها منذ حياة والدها وهو الأمل الوحيد نحو بداية حياة أفضل مع الحفاظ على حقوقها .
أما (عبد الله ) ضل الخوف مسيطر عليه لأن أُمه ماتت عند ولادته ويعتقد إنه السبب في موتها كما اخبرته خالته بذلك وبقي يعيش تعيسا بسبب ذلك الإعتقاد ” استمع عبد الله لوسواس ملحاح كان يلم به كلما واجهته مشكلة و يمتلئ قلبه برهبة إرتكاب خطيئة . كانت الخطيئة كتعويذة طَوَق القدر بها رقبته ” بالإضافة لمشاكله العائلية كالعراك المستمر بين زوجته وخالته التي ربته بعد وفاة والدته . وهو رجل إستسلامي ففي حديثه عن مظلومة يقول : ” لو كان الأمر بأيدينا لأسعدناها . هذه إرادة الله ” . وعبد الله هو رمز لأولئك الإستسلامين الذين لم يقدموا شيئا .لأوطانهم بحجة إن كل شيء يقع هو ما كتبه الله لهم وانهم لا يملكون الحيلة لتحسين وضعهم وإبدال تعاستهم الى سعادة .
وليس كل شخصيات الروائي لها مرجع واقعي فالشخصية الروائية تمتزج في وصفها بالخيال الفني للروائي (الكاتب) ، وبمخزونه الثقافي الذي يسمح له أن يضيف ويبالغ ويضخم في تكوينها وتصويرها بشكل يستحيل معه أن تعتبر تلك الشخصية الورقية مرآة أو صورة حقيقية لشخصية معينة في الواقع الإنساني المحيط ، لأنها شخصية من إختراع الروائي فحسب.