رؤية العالم عند لوسيان غولدمان:
ت عد رؤية العالم أول مفصل من مفاصل البنيوية التكوينية ، ثم تأتي بعدها عملية الفهم ، وبعدها عملية التفسير.فالبنيوية التكوينية “تسعى لتحقيق وحدة بين الشكل والمضمون ، وبين حكم القيمة وحكم الواقع ، بين التفسير والفهم.” ()؛ وعليه فعملية ” الفهم محايث للنص والتفسير يستدعي عوامل خارجية عن هذا الأخير.”()
يؤكد غولدمان مؤسس البنيوية التكوينية متأثرا بابحاث جورج لوكاتش ان هناك فرقا كبيرا بين البينوية التكوينية وسوسيولوجية المضامين والاشكال ، فالثانية تقوم على الانعكاس التام للمجتمع وللوعي الجماعي في الفن، بينما في البنيوية التكوينية يكون الفن عاملا أساسيا من عوامل الوعي الجماعي. ()، ومن ثم لايعد ” العمل في البنيوية التكوينية مجرد انعكاس للواقع ، بل هو تعبير متجانس عن أقصى التلاؤم مع الحقيقة الذي يمكن لمجموعة اجتماعية ان تصل إليه ؛ أي عن وعيها الممكن الأقصى وعن رؤيتها للعالم.” ()، وان هذا الوعي الممكن الأقصى لاي طبقة اجتماعية هو الذي يشكل رؤية العالم المتماسكة سيكولوجيا ، ويمكن ان تتواشج على جميع الأصعدة: الدينية ، والفلسفية، والأدبية ، والفنية. ()؛ وعلى وفق ماتقدم فالوعي يشكل مظهرا لكل سلوك بشري () ؛وعليه يمكن القول ان غولدمان يتصور ان “العمل الادبي هو الصورة الذاتية للعالم الواقعي.” ()
فالفرضية” الأساسية للبنيوية التكوينية ، والتي مؤداها : إنّ كل سلوك إنساني هو محاولة لتقديم جواب دال على وضعية مطروحة ومحاولة من خلال ذلك لخلق توازن بين الذات الفاعلة والموضوع الذي مورس عليه الفعل.” ()
فغولدمان يتخذ البنيوية التكوينية كمنهجية يحاول عن طريقها البحث عن العلاقات التي تربط بين أي اثر ادبي وسياقه الاجتماعي _ الاقتصادي الذي يسبق تكوينه ، ولاينظر لهذه العلاقات على انها مجرد تساوق او تواز بسيط بين بنية الأثر الادبي وبين شروط انتاجه الاجتماعية والاقتصادية. ()
يتفق غولدمان مع” بارت في دراسة البنية الداخلية للنص أولا ويتفق مع مورون بضرورة دراسة الحياة الانفعالية للمؤلف ؛ولكنه يتجاوزها بالتأكيد على إدماج الأثر الادبي ومؤلفه في بنية أوسع هي البنية الاجتماعية والذهنية الثقافية اللتين يمثلهما او ينتمي اليهما.” ()
ان صلب قكرة البنية التي تقاس بها الاعمال الأدبية عند غولدمان هي رؤية العالم.() ؛ بمعنى آخر ان أي” رؤية للعالم هي وجهة نظر متناسقة ووحدوية حول مجموع واقع وفكر الافراد الذي يندر ان يكون متناسقا ووحدويا باستثناء بعض الحالات لايتعلق الأمر هنا بوحدة ميتافيزيقية ومجردة بدون جسم ولا شكل ، بل يتعلق الأمر بنسق فكري يفرض نفسه في بعض الشروط على مجموعة من الناس توجد في شروط متشابهة أي على بعض الطبقات الاجتماعية.” ()
ومن ثم فأنّ “الطبقات الاجتماعية تشكل بنية تحتية لرؤيات العالم ، وتسعى الى التعبير المتماسك عنها في مختلف مجالات الحياة والفكر.” ()
فرؤية العالم ماهي إلاّ ” النسق الفكري الذي يسبق عملية تحقيق النتاج.” ()؛ ومن ثم فانّ “تجربة الفرد ليست إلاّ وجها جزئيا في الابداع ؛ إذ ان المبدع الحقيقي هو”النحن” هو الذات الجماعية التي تلاؤم رؤيتها للعالم بنية العمل الفني.”() ؛ وعلى وفق ماتقدم فانّ ” الفنان والكاتب في طليعة الافراد الذين يحاولون تكوين ذات جماعية تتجاوز الذات الفردية.”()
إنّ ” التاريخ الادبي لابد ان يكون تاريخا ادبيا اجتماعيا، مادام يبحث الادب في مظاهره المختلفة، والادب كما قلنا ظاهرة اجتماعية”()؛ ومن ثم فان كل نص هو ” عالم مهول من العلاقات المتشابكة يلتقي فيه الزمن بكل ابعاده ، حيث يتأسس في رحم الماضي ، وينبثق في الحاضر ، ويؤهل نفسه كإمكانية مستقبلية للتداخل مع نصوص آتية.”()
إنّ ” مفهوم الكلية النسبية ومفهوم التماسك السياقي هما الأساس الذي اقام عليه جولدمان مفهوم ” رؤية العالم” التي طبقها بصفة خاصة هلى دراسته عن الرؤية التراجيدية في “خواطر” باسكال ، وفي مسرحيات راسين ؛ وتتضح رؤية العالم هذه في الروح المشتركة او السمات العامة التي تطبع الاعمال الأدبية والفكرية ببصمتها المتميزة.”()
فرؤية العالم هي “البنية العقلية عند جولدمان وهي أساس الحياة الإنسانية والاجتماعية بكل تجلياتها المادية والفكرية والابداعية ، ونظرا لشموليتها ورسوخها ؛ فإنّ تجربة الفرد الواحد اقصر واضيق من ان تخلق هذه البنية التي هي بطبيعتها نتيجة نشاط مشترك لعدد ضخم من الافراد الذين يتواجدون في موقف متماثل ويشكلون مجموعة اجتماعية متميزة تعيش لفترة طويلة.() ، ومن ثم ” فداخل كل بنية توجد بذرة نافية لها ، بذرة تؤشر على ماستكونه ، أي بداية تبنين يؤسس بنيات جديدة ويلغي البنيات القائمة.()
بعد ان قدمنا مهاد نظري عن ” رؤية العالم” التي تبناها الامامان الهادي والعسكري “عليهما السلام” في كل نتاجاتهم كرؤية جماعية ربطت بين النصوص المختلفة زمانيا ومكانيا كما سنبين ذلك في مباحث الدراسة.