رواية حفيد البي بي سي لميسلون هادي: “تركة” شهرزاد بطبعتها الأخيرة
د. حمزة عبد الحمزة عليوي
لا يبدو أن الكاتبة العراقية ميسلون هادي قد فكرت، وهي تكتب روايتها المختلفة والمؤسسة لتحولات “كبرى” لاحقة في مسار الكاتبة المعروفة “حفيد البي بي سي: المؤسسة العربية للدراسات والنشر” قد فكرت باحتمالين قائمين: موت الملكة البريطانية الملكة إليزابيث الثانية، وتوقف البث العربي من هيأة الإذاعة البريطانية. الثاني هو الأصعب والأبعد توقعا؛ فمن كان يتوقع أن يأتي يوم لا نفتح “الراديو” على إذاعة البي بي سي، ولا نسمع صوتا يأتينا من بعيد قائلا: هنا لندن.. هيأة الإذاعة البريطانية؛ لا أحد خطر بباله هذا الاحتمال أبدا، أن تتوقف “البي بي سي” عن صناعة المشهد اليومي للناس في العراق والعالم العربي كله. مثلما أن أغلب الناس، غير البريطانيين، ربما نسوا وجود الملكة المعمِّرة بعد حياة طالت كثيرا، حتى ظن الناس أن الملكة لن تموت. هذان الاحتمالان الغائبان عن الرواية، وعن تفكير الكاتبة كما أظن، كان لهما أثر ضمني فاعل. لنقل إن لهما مقابلين فاعلين. هما التقابل المستمر حتى الكلمة الأخيرة من الرواية بين قصة “الحفيد” وقصة شهرزاد “الجدة”. وهناك تقابل آخر، طرفاه “سردية” البي بي سي وظلال الحكايات المتخيلة لشهرزاد “العراقية”. والتقابلان ينتهيان، وربما الأصح أن نكتب ينتجان حكاية البي بي سي نفسها بتعلُّقها بحياة الملكة البريطانية المتخيلة.
البي بي سي: قصة الحفيد أم قصة “بيبي” شهرزاد؟
كما لو أن العنوان يقصر الرواية وعوالمها على قصة “الحفيد” وحدها؛ إذ يفترض، سلفا، أنه سيكون حكاية كاملة عن “حفيد البي بي سي”، فيعمد إلى توجيهنا صوب تصور وحيد يجعل من “البي بي سي” محض ذاكرة يستعير منها الحفيد حكايات جدته، وسينشغل السرد وزمانه بقصة الحفيد وتحولاته. ولابأس؛ لكن الفصلين الأولين من الرواية يفاجأن القارئ، ابتداء، باقتصار موضوعهما على “استعادة” بعض تفاصيل قصة الجدة. فكانت ولادتها عام 1920، قبل تأسيس الدولة العراقية بسنة واحدة، وبعد احتلال بريطانيا للعراق بثلاث سنوات. ثمة ربط لا تنكره الرواية بين سردية “الاستعمار/ بريطانيا” وسردية شهرزاد، المرأة العراقية الجنوبية، المولودة قرب زقورة أور فيما ستُعرف لاحقا بـ”الناصرية”، وهناك سردية ثالثة موضوعها “الدولة” وحكايات ملوكها وجنرالاتها الطامحين للوثوب إلى القصر الرئاسي. هذه السرديات الثلاث ستغدو كل حكاية الحفيد المسمّى على اسم أشهر المطربين العرب: عبد الحليم، لكنه في حالتنا العراقية لم يكن “حافظا” لأي أمر، إنما هو عبد الحليم بن شعيط بن ممتاز، قارئ المقام البغدادي الشهير. فلا عجب، من ثم، أن نعرف لاحقا أن الفصلين الأولين يجملان حياة الجدة من منظور الحفيد؛ فما نقرأه في الفصلين ليس سوى مجمل سردي يصلنا عبر صوت الراوي، فيما يتولى الحفيد “المراقبة” الصارمة لما يرد ذكره في المجمل السردي عن حياة الجدة. نقول المراقبة المتسمة بالصرامة والتشدُّد؛ لأن ما يصلنا من حياة “الجدة” يجري انتقاؤه بعناية فائقة، وهي ذاتها مهمة الحفيد الرسمية كونه يعمل بوظيفة “رقيب” في المكتبة الوطنية “دار الكتب والوثائق”؛ أن ينتقي الجيد مما يُعرض عليه من “نصوص” و”أفلام”، ويخلصه من “الشوائب” التي تضر به وتعطل وظيفته. هو نفسه يدافع عن عمله الرقابي أمام زميليه بالادعاء أن الرقابة تنقّي وتشذب “النصوص” و”الأفلام”، قبل أن تُعرض على الناس، فالرقابة ليست عملا سيئا يطال جواهر “الأشياء”، إنما هي “صناعة” أخرى لها، حتى وإن كانت تعبر عن وجهة نظر السلطة في بلد ما. لكن الرقابة هنا تتصل بما يحق لنا معرفته عن “شهرزاد” أو ما تبقى من ميراث السيدة “البي بي سي”. نحن، إذاً، إزاء قصة الحفيد، المواطن العراقي المسمّى “عبد الحليم”، وهو ذاته الموظف الحكومي في دولة البعث، الحريص، الحرص كله، على الالتزام الصارم بتعاليم وأوامر “الحزب”. لكنه، ذاته، أيضا، من سيجيز، بخطأ فادح، مسرحية “معادية” للـ”حزب” و”الثورة” عنوانها “الرئيس آخر من يعلم”، وسيكون مصيره السجن حتى تعبر الدبابات جسور بغداد وتسقط البلاد كلها بقبضة الفوضى الأمريكية “الخلّاقة”.
صح النوم: حكايات الفندق المهجور وسط بغداد
لكن قصة “الحفيد” تستمد قوتها، بل ومشروعيتها الثقافية، في الأقل، من قصة شهرزاد، برغم أن الحفيد هو راوٍ منحاز كليا لقصته، ولما ينتقيه من قصة جدته، شهرزاد الثانية، فإنه السبيل “الأوحد” المتاح أمامنا للوصول للقصة الأصلية. ولابأس فشهرزاد هي جدة الحفيد، وهي صانعة الحكاية بتفاصيلها المختلفة؛ فهي “غزال” كما سمّاها أبوها “صبيح” في السجلات الرسمية، لكنها أخذت اسم جدتها لتصبح، لاحقا، شهرزاد الثانية؛ تيمنا بصفة “الثانية”، لقب ملك بريطانيا العظمى إِلِيزَابِيث “الثَّانِية” إلى الأبد؛ برغم أن الحفيد لا يورد “الثانية” صفة لـ”شهرزاد”، وهو يبالغ، ربما، بإيراد تفاصيل تفوق الملكة البريطانية على جدته بكل شيء، سوى بتعلُّق شهرزاد العراقية بالملكة التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها، وبحكاياتها التي لا تنتهي عما تسمعه من البي بي سي، بل بما تعيده سرده من “أخبار” الإذاعة البريطانية الشهيرة على صديقاتها. سحر السرد وقوته المتجسِّدة بحكايات شهرزاد عن العالم بتفاصيله المختلفة، وعن بلادها وجنرالات جيشها المختلفين والمتعدِّدين الذين طبعوا البلاد بخصالهم النافرة. لكن هل تساوي قوة السرد قوة الملكة “الاستعمارية”؟ لا يذكر لنا الحفيد أية أي تفصيل، مهما كان صغيرا، عن المقابلة بين حكايات شهرزاد والقوة المفرطة لقصة الملكة إِلِيزَابِيث الثَّانِية. فهو الراوي المنحاز الذي يعيد صياغة قصة “شهرزاد” المختلفة بمنطقه وتحيزه لذاته وأوهامه، بل سيحكي للبريطانيين، لاحقا، عن تعلُّق جدته، شهرزاد، بالملكة البريطانية وحبها الجارف لبريطانيا العظمى، بل سيؤلف كتابا يروي فيه وقائع سجنه في عهد البعث، وقد تقصَّد أن يحمل كتابه السيري معنى الاضطهاد والظلم بتسميته “مذكرات سجين سابق في أبي غريب”؛ طمعا باللجوء الإنساني هناك. يصمت الحفيد عن “سرد” تفاصيل التقابل بين حكاية شهرزاد وحكاية إِلِيزَابِيث، وسيذكر ما يهمه من وقائع السردية القومية المفصلة عبر البي بي سي، حكايات الانقلابات المتولِّدة عن بعض، لكنه يصمت عن لحظة التسمية الأولى، أتحدث عن سرديات من قبيل “شعيط” و”معيط” و”جرار الخيط”. لا شيء عن وقائع هذه السرديات العراقية المتكررة، سوى أنها مولودة أو متحققة بحكم “الحسد” أو “النكد”، ولا ذكر أو تفسير لتكرار الوقائع المدمرة للحكايات والذاكرة معا، بل إن “الحفيد” يصمت حتى عن استعادة “تفسيرات” الجدة نفسها للوقائع العراقية. “منار” وحدها، زميلة الحفيد في الدار الوطنية، وفي غرفة العمل، والشبيهة لشهرزاد باعتراف الحفيد ذاته، ستتكفل بـ”سرد” الوقائع العراقية كلها، بما فيها وقائع حكاية الجدة وحفيدها.
هنا بغداد: صدمة ما بعد الديكتاتور
تقف “منار” حيث كان “بدر”، زميلهما، يقف قرب النافذة، وتنظر إلى وقائع بغداد بعد احتلالها الأخير. كان “الحفيد”، قبل فراره من البلاد، قد وقف الوقفة ذاتها، وصدمته بشاعة المنظر؛ فصاح منددا بما كان يردده “بدر” الشيوعي عن الأمل والمستقبل الزاهر. لكن “منار” ستروي لنا ما تجاهله الحفيد من قصته وقصة الجدة شهرزاد، أو ما حذفه، بتعمد، بصفته رقيبا؛ فهي شاهد آخر على وقائع كثيرة تتصل بقصة “الحفيد” وما رواه من حكايات جدته، وما لا يتصل بها من حكايات “بدر”، الزميل الفار للندن قبل أن يصلها الحفيد لاحقا. فهل جاءت الكاتبة بشخصية “منار” لتقول ما لم يستطع قوله الرقيب عبد الحليم، أو ما تعمَّد حذفه بصفته الراوي الرقيب؟ ربما، أفكر بدور “منار” في حكاية الحفيد وجدته؛ فهل نحن إزاء قصة “ثالثة”، مثلا، أم أن دور “منار” لا يزيد عن وظيفة “سبورة” الحكم والأقوال “الخالدة” التي سينتهي دورها بعد زوال “الديكتاتور”؟
أظن أن “مروية” منار المحتجَّة، في خاتمة الرواية، على “انتهازية” الحفيد، هي اللحظة الرئيسة في الرواية. إذ إن فرار الراوي الرئيس، وهو صاحب قصة الحفيد المخوَّل بسرد قصة البي بي سي، الذي تعيد الرواية صياغته بصفته الكناية الشعبية المفضلة عن “شهرزاد”، وعن مشهد “بدر” المتهافت كذلك، فلا يبق غير منار ممن شهد وقائع الحكاية، إذ تأخذ على عاتقها تخليص السرد من “ربقة” الحفيد وتسلطه على حكاية شهرزاد “هل هي حكاية واحدة؟”، فيعيد النظر بالوقائع والمشاهد. لكنها “منار” تظل محض شاهد أخير على حكايات البي بي سي كما سمعتها من الحفيد، فليس لها سوى أن “تذكِّر” بأصول البي بي سي، كما سمعتها من الحفيد، قبل فراره للندن. وليس لها، من ثمّ، أن تضيف حكاية، أو ترفع واقعة من الحكاية الأصلية. إنها الشاهد الأخير الذي يقف مكان “الشيوعي” و”البعثي” الهاربين من بلادهما لبلاد “المستعمر” الجديد، وهي ذاتها من تستقبل الموظف الجديد ذا اللحية السوداء الذي يصفها بـ”المنار”، وهو ذاته الموظف الذي لا يصافح “النساء”، مثل أغلب رؤسائنا “المتدينين” إنما يقول لـ”منار” ردا على يدها الممدودة له في الهواء: “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..