سوسيولوجيا اللون الأبيض نسق ايقوني
يعد اللون في الخطاب القرآني أيقونة بصرية وسمعية وذهنية تكتنز من الدلالات والإيحاءات المتعددة التي تنفتح فيها مخيلة المتلقي ؛ فتشكل هذه المؤشرات الأيقونية ( نقاط استرشاد لإطلاق خيال القارئ )٨ . ويتحقق ذلك بوساطة اللغة والبصر التي تمثل الآلية الرئيسة في تحويل النص إلى أنساق ، واللون الأبيض من الأنساق اللونية التي شكلت حضورا واسعا في الخطاب القرآني لما جسده هذا اللون من إيحاءات ورموز تعدت نطاقه الوصفي ، أي المطابقة إلى ما هو أعم حيث تتسع دائرته الأيقونية متجاوزة مساحة اشتغاله من حيث كونه لونا محضا إلى مساحة اشتغال قابلة للتفسير والتأويل بعيدة عن تفسيره التقليدي بتضمنه معان ورؤى وسلوكيات أعم من المعنى الوصفي الذي يمكن إدراكه بيسر وبقراءة استهلاكية ، ويتجلى ذلك بحضور اللغة التي يمثل اللون فيها لغة رمزية تحمل في طياتها طبقات نصية تحتاج إلى إدراك المتلقي . لأن ( اللغة هي أساس الجمال والإبداع الفني ) ٩ . والخطاب القرآني حمل صورا لونية عدة بشكل واضح وبالألفاظ اللونية ذاتها ، ذا حمولة دلالية مختلفة في اللون الواحد ، لأنه يحمل شحنة رمزية قابلة للتأويل ؛ فنجد الصور الذهنية مغايرة لاختلاف نفسية المتلقي في التعاطي معه ؛ لأن هذه الصور تتكأ على اللغة ، فهي أيقونة مرسومة بالكلمات مثلها مثل اللوحة الفنية ، أي أن الكلمات تعوض الخطوط والألوان وهي( تتعامل بأدوات لغوية وتصويرية ) ١٠ .
ومن الألوان التي وردت على صورة أيقونية وذو حمولات دلالية متعددة ومختلفة لما يحمله من إرث لدى المتلقي ، فجاء اللون الأبيض في عدة آيات قرآنية تبين اشتغالاته وفقا لطبيعة توصيف المتلقي أو ما يشعر به وطريقة تعاطيه معه وقد ورد ذكره اثنتي عشر مرة كما في قوله تعالى : (( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(( (( البقرة ١٨٧ ))١١. إنَ الأيقونة اللونية جاءت لتحديد دلالة زمنية قائمة على أحكام عقائدية ، وهي لبيان الوقت الحقيقي لبداية الصوم الذي يعد ركنا من أركان العبادة والإمساك عن مباحاته متخذا من الأيقونة اللونية في النص القرآني من حركة القبائل العربية في تلك المدة الزمنية التي نزل فيها النص لاعتمادهم في تنقلهم على السير ليلا، لاسيما في رحلاتهم التجارية أو البحث عن الماء والكلأ أو السفر . وهذا ما ذهب إليه القرطبي في تفسيره بقوله : ( الخيط الأبيض : ضوء النهار وبقوله : الخيط الأسود : سواد الليل وتأويله على قولة قائل هذه المقولة : وكُلُوا بالليل في شهر صومكم ، واشربوا ، وباشروا نسائكم … من أول الليل إلى أن يقع ضوء النهار وبطلوع الفجر من ظلمة سواد الليل ) ١٢ . لذا كانت أوقات الليل والنهار معروفة لديهم وراسخة في أذهانهم ؛ لكثرة اعتمادهم في سيرهم ليلا على حركة النجوم وتحديد طرق اتجاهات مسيرهم ، وهجوعهم في وقت النهار بسبب قساوة الحياة وشدة حرارة الصحراء، وعدم توفر المياه الجارية وندرتها وتباعد المسافات بين آبارها ، فكان السير ليلا يخفف من وطأة الحر وشدته ، فجاءت الأيقونة اللونية الممثلة بالبياض لبيان وتحديد الوقت لديهم لمعرفتهم التفصيلية به . ولرفض حالة اجتماعية و دينية كانت سائدة في المجتمع القبلي العربي قبل الإسلام واستمر البعض منهم في اختتان أنفسهم على الرغم من تحريم اتصالهم بنسائهم حتى أيام صومهم في الجاهلية ،وكذلك رفثهم وعدم امتناعهم ، فالرفث ( كل كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه ، وجعل كناية عن الجماع ) ١٣، وقد تصدرت لفظة الرفث الآية لشيوعها في المجتمع الجاهلي ،وهي من مفطرات الصوم ؛ فجاء الإذن وحصول الإباحة قبل ولوج النهار وإدبار الليل ، وهذا المنع يستمر حتى دخول أول الليل ، فالأيقونة اللونية المتمثلة باللون الأبيض جاءت على وفق الخطاب القرآني في هذه الآية مشحونة بحمولات دلالية متعددة خارجة عن مساحة اشتغال اللون الأبيض بوصفه لونا بذاته ، بل اشتغل على مساحات بعيدة تحمل دلالات زمنية وشرعية وعقائدية وتوضيحية وتسامحية لتنظيم العلاقة الأسرية بين الزوج والزوجة ، ونهي عن عادة سائدة في الجاهلية محرمة عليهم حتى في الجاهلية أيام صومهم .
ومن الآيات التي حملت دلالة اللون الأبيض بوصفه أيقونة لونية مغايرة لما جاءت عليه في الآية السابقة كما في قوله تعالى : یَوْمَ تَبْیَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذینَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ کَفَرْتُمْ بَعْدَ إیمانِکُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما کُنْتُمْ تَکْفُرُونَ ( 106) وَأَمَّا الَّذینَ ابْیَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفی رَحْمَتِ اللّهِ هُمْ فیها خالِدُونَ ( آل عمران/١٠٧ ) )١٤. إن توظيف الدلالة اللونية في النص القرآني يعكس حالة ذهنية متصورة لدى المتلقي ، وهو بياض الوجه ؛ لأنه يمثل الجزء الخارجي المكشوف لجسد الإنسان ، فإن الحالة النفسية تظهر بوضوح عليه ، وتبين أفعاله وتصرفاته المكبوتة ، من خلال انعكاس هذه الأفعال على قسمات الوجه الظاهرة . فضلا عن وصف هذا الجزء من جسد الإنسان بالبياض يمثل دلالة أيقونية لجمال اللون و مقبوليته لدى أهل البادية من الأعراب على عكس سواد الوجه بسبب ندرته لغلبة اللون الأسمر والأسود في الجزيرة العربية بسبب حرارة شمسها وشدة سموم رياحها الحارة التي تترك آثارها اللونية على وجوههم ، إضافة إلى قرب نجد والحجاز واليمن والأماكن القريبة لهما إلى الدول الأفريقية من ذوات البشرة السوداء أو القريبة منه ، كما أن غالبية الرقيق الذين يباعون في الجزيرة العربية هم أبناء هذه الدول كرقيق وعبيد ، لذا أصبحت دلالة اللون الأبيض تخرج عن كونه لونا إلى أيقونة تدل على رفاهية الإنسان ونعيمه ومن طبقة محترمة لديهم ، فحال الكافرين أنهم مبغوضون عند الله تبارك وتعالى ؛ كمنزلة الإنسان الذي يسترق لديهم أو يعامل معاملة غير إنسانية ، بسبب الطبقية السائدة لديهم في تصنيف مجتمعهم ، لذا جاء الوصف القرآني للمؤمنين ببياض الوجه ؛ دلالة أيقونة محببة لما يحمله هذا اللون من إرث في سلوكيات المجتمع العربي وما توارثوه من أسلافهم ، ومن الحضارات القريبة منهم ، إذ كان اللون الأبيض لديهم يمثل رمزا للطبقة الحاكمة وتزين بها قصورهم ومقتنياتهم ؛ ويكون زيهم الديني في المناسبات والأعياد ، كما أن اللون الأبيض يملك قداسة في الحضارات القديمة ،لاسيما في وادي الرافدين لأنه كان لباس آلهتها الذين كانوا حكاما ولباس كهنة معابدها ، ولا يسمح لأفراد الشعب بارتداء الملابس البيضاء ؛ لغرض التفريق والتمييز الطبقي بين سادة المجتمع وعامتهم (١٥) . لذا جاء الخطاب القرآني يحمل أيقونة اللون الأبيض في صدارته ؛ ثم يختم النص ببيان جماليته ومنزلته في الآية التي ترد بعدها ، وهو حال المؤمنين الذين ينعمون في حياة مرفهة وكريمة تحفها الرعاية الإلهية الدائمة التي لازوال لها. وتبقى أيقونة اللون الأبيض لصيقة بالإنسان ــ النبي موسى ــ دون غيره من المخلوقات وبيانا لنبوته ومعجزة سماوية لتدل على صدق إدعاء النبي موسى عليه السلام ولتكون مصداقا لصدق بينته . وبيان عجز فرعون في رد موسى وأخيه كما في قوله تعالى : (( ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين )( الأعراف/ ١٠٨))١٦ . فاللون الأبيض تغيرت دلالته من الوجه ونعيم الآخرة إلى كونه يحمل دلالة إثبات نبوة موسى وأخيه من خلال اليد ؛ وهي إحدى جوارح الإنسان التي تدل على القوة ، فالأيقونة اللونية ليست محضة بل هي إيقونة إعجاز للمدعي وإبطال لإلوهية فرعون وملئه وعجزهم في الدفاع عن معتقدهم ، وإن توسلوا بكبار سحرتهم حيث كان السحر مزدهرا في عصر فرعون ودولته ، ووصل كبار ممارسيه إلى أرقى طبقات المجتمع الفرعوني وناهزوا طبقة الكهان في مراتبهم وقربهم من فراعنة مصر ، وأدنى مرتبة من طبقة الفراعنة الإلوهية للمصريين . وهم بذلك يمثلون طبقة عالية مع الكهان مطلقة يدهم بالجبروت والسرقة وقتل النفس واسترقاقهم لطبقات المجتمع الضعيفة ، فضلا عن طبقة الفراعنة فجاء اقتران اليد باللون الأبيض الدال على نصاعة أمانة موسى وبياض سيرته ، ونقيض سيرة الطبقة الفرعونية وملئهم من الطبقات الأخرى، فمثلت الإيقونة اللونية البيضاء دلالة على الطهارة والبراءة والعفة من كل دنس وظلم ، وجاء الخطاب القرآني حافلا باللون الأبيض المقرون باليد ؛ لان اليد تمثل رمز القوة والبطش والاستيلاء على حقوق الرعية لدى الجبابرة وأعوانهم ، وهذه الإيقونة تمثل إعجازا للذين لا يؤمنون إلا بالماديات من المجتمع الفرعوني وغيرهم الفاقدة للون الطهارة الموصوف بالأبيض ، وتمثل أيقونة روحية للمجتمع الإيماني الذي يمثل لديه المنزه من كل عيب وسوء .
وتبقى دلالة اللون الأبيض كأيقونة دالة على الطهارة واثبات للنبوة ومحطة إقناع لمن حضر المحاورة سواء أكانوا من قوم فرعون وأتباعه أم من ثلة المؤمنين بنبوة موسى من بقية يوسف عليه السلام وإخوته ومن العبرانيين فجاء الخطاب الإلهي إليه معززا بالقوة البصرية الإقناعية الحاملة للأيقونة اللونية البيضاء الإعجازية لمن حضر الواقعة ؛ولترسيخ المشهد الحواري بينهما جاء النداء بقوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ( طه /٢٢ )) ١٧ . لتكرار عملية تغير اللون من حالتها الطبيعية إلى حالة جديدة ، ولكن هذا التغير يبقى مقتصرا على نبوة موسى ومصاحبة للمصلحين المعنوية ؛ وهي دلالة محمودة إذ ختم النداء بكلمة من غير سوء ؛ لبيان أن التحول في اللون ليس حالة مرضية لأنها خالفت المألوف عن لون اليد الطبيعي ولم تترك أثرا نفسيا غير مرضي ، بل إيقونة تدل على الطهر والنقاء على الرغم من أن موسى عليه السلام نشأ في بيت فرعون الملوثة يده بكل ظلم وخطيئة ، بينما بقيت يد موسى ناصعة من كل عيب وسيئة ؛ لذا جاءت الإيقونة اللونية في الخطاب القرآني معادلا موضوعيا للصراع بين الحق والظلم والإنسانية بكل معانيها وغير الإنسانية بكل قبائحها وآثامها . فضلا عن أن بياض اليد كأيقونة لونية حملت دلالتين في النسق القرآني هما : الأولى أن بياض اليد كان لونا مرئيا ماديا لدى كل من حضر الواقعة لإثبات معجزة وبطلان دعوى المنكر لها كما في قوله تعالى :(( ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( طه/33))18 . وأحدث صدمة وتعجبا لدى الفريقين وخطف إبصارهم نتيجة تغير اللون ولكنه (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ( الشعراء/٢٢ )) ١9. وقد اجمع المفسرون ( على أنها كانت تتلألأ كضوء الشمس أو تبعث ضياء كضوء الشمس ) 20. والثانية : البياض المعنوي الدال على الطهارة والنقاء و الهداية و إنقاذ البشرية من الاستعباد . ولعل اللون الأبيض لما يمثله من تأثير على المتلقي مقرونا باليد إعجازا وتقبلا لديه ؛ لذا جاء الخطاب القرآني ليرسخ فكرة اليد البيضاء الدالة على وضوح المشروع الإصلاحي للأنبياء المعزز بالقوة الربانية والتأييد غير المحدود ،وجعل اللون الأبيض معجزة يتسلح بها الأنبياء ، وهي معجزة قائمة على السيرة الحسنة بدلا من السيرة الملوثة للطغاة ، من خلال مشهد حواري لزعزعة القوة القائمة على الظلم والطغيان واستعباد الناس بغير حق ؛ قبال قوة قائمة على صدق المشروع الإصلاحي ونظافته وثقة المتصدين وإيمانهم به ، لذا تعدد فعل تغير لون اليد وصيغه وزمنه ، فجاء الفعل بزمن الماضي دلالة على وقوع المشهد وانتهائه كما في الآية ( ٣٣ ) من سورة الشعراء ؛ بينما جاءت الآيتان الأخريان متصدرتين بفعلي الأمر ( ادخل ) و ( اسلك ) كما في قوله تعالى : وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( النمل/١٢ ) )٢1 . وفي قوله تعالى : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿ القصص/٣٢﴾٢2 . ويتضح من خلال استعمال اللون الأبيض كإيقونة لونية متعددة الدلالات في الآيات الثلاث المتنوعة السبل التي جاء بها أن اللون جاء بصيغة مؤنثة تحمل صفة ثابتة غير قابلة للتغير والتبدل أو فقدان صفتها لمرة واحدة لا تتكسر ، وإنما هذه الصفة تبقى ملازمة لليد كلما جاءها الخطاب الإلهي بذلك لإظهار البرهان من الناحية المادية، وتبقى صفة ثابتة للنقاء والطهارة والأمانة لليد من الناحية المعنوية الروحية ، لذا جاء اللون الأبيض بصيغة فعلاء للدلالة على الثبوت والاستقرار ، فضلا عن أن هذه الصفة اللونية و هذه الصيغة جاءت كذلك ثلاث مرات ؛ دلالة على أن المعاندين والرافضين لدعوى موسى عليه السلام كانوا يأملون بعدم حصول تغير لون اليد أو لعله حصل مرة واحدة لا يتكرر؛ فجاء النداء بالتكرار لإخراج اليد وتغير لونها إبطالا لدعوى المعاندين بتكذيب موسى ، وتعزيزا لموقفه وإقناع قوم فرعون وتعزيزا للحجة عند أتباعه ، فكان التكرار دحضا لأقوال فرعون بأنه سحر خيل إليهم ؛ ولكن التكرار إشارة واضحة وحجة دامغة بثبوت اللون الأبيض وتكراره .
كما جاءت دلالة اللون الأبيض كأيقونة مختلفة في النسق القرآني عما جاءت عليه في الآيات السابقة ، وإن اشتركت بأنها تمثل حالة انعكاس للإرث الذي يحمله الإنسان تجاه الأمراض التي يصاب بها ، وكذلك أن اللون الأبيض ظل ملاصقا للإنسان ومتعلقا بالجزء المكشوف منه هو الوجه واليد والعين ؛ وإذا كانت دلالة اللون الأبيض يعكس حالة جمالية ، فإن دلالته تغيرت كما في قوله تعالى : (وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (يوسف/ ٨٤ )) ٢3 . فقد حمل اللون أيقونة مضادة بعيدة عن الجمالية وتقبلها في ذهن المتلقي ؛ ومثل نسقا معبرا عن الحالة التي يصاب بها الإنسان بفقد عزيز عليه ؛ فيتحول هذا الحزن وألم التفجع وشدة البكاء واستمراره إلى حالة مرضية ظاهرة للعيان ، وهذا التحول في اللون يمثل حالة غير مقبولة للعين وتفقد جماليتها ومحاسنها وجماليته أيضاً، فيصبح اللون الأبيض إيقونة ونسقا يبين عظم المأساة وحالة التفجع ومصيبة الفقدان وغدر الإخوة والإصرار على المعصية ، وتأنيب النبي يعقوب عليه السلام لنفسه للتفريط بالأمانة وعلو منزلتها امتدادا لنبوته التي أودعت عنده من السماء ، فضلا عن حبه وشدة تعلقه به نبيا وابنا بارا تارة ، وتارة أخرى استفحال ظاهرة الحسد والبغض والكره والكذب ؛ والإصرار على المعصية وعدم مصارحته بالحقيقة والندم والتوبة وطلب المغفرة والاستقامة من قبل أبنائه لتغييب يوسف وادعائهم الكاذب على الرغم من معرفتهم بنبوة أبيهم وتتابع الوحي عليه . وهذا التحول في بياض لون عين يعقوب من السواد إلى البياض تعبيرا عن شعور اللامبالاة وفقدان الرأفة والرحمة لديهم وهم ينظرون أبا مفجوعا دون أن تتحرك مشاعرهم الإنسانية تجاهه والتخفيف عن ألم المعاناة ببصيص أمل له بما فعلوه مع أخيهم ، والبحث عنه لتحسس أخباره ، لذا جاء اللون الأبيض كإيقونة لونية ونسق يظهر مدى شدة الحزن فقد وردت لفظة الحزن واشتقاقاتها ثلاث مرات في سورة يوسف ٢4 . بينما وردت لفظة الحب واشتقاتها أربع مرات في ذاتها ، أما الألفاظ التي تدل على الخيانة والكذب والخسران وعدم حفظ الأمانة والكيد والسرقة ووسوسة الشيطان والمكر والمعصية والفحشاء والمراوغة شكلت نسبة كبيرة من سورة يوسف 25، بل أن تحول اللون رسخ عظم المأساة وفداحة الخطب بما حل بالنبي يعقوب ، وشعور المتلقي بها بدلالة تغير اللون من حالته الجمالية إلى وظيفة تفسيرية وصفية ظاهرية وباطنية ، موظفا الإرث لدى المتلقي بكون تغير لون العين من السواد إلى البياض حالة مرضية تفقد جمالية العين وقدرتها على الإبصار .
إنَ دلالة اللون الأبيض كإيقونة لونية في نسق الخطاب القرآني تغيرت بتغير النسق الذي وردت فيه ، فكان منها لصيقا بالإنسان لبيان حالة ما ؛ ومنها جاء ملتصقا بجسده ؛ ومنها جاء لبيان موعظة وتذكيرا بعظمة الله وقدرته ، في تغيير اللون في سنخ واحد ، إلا إنها مختلفة لبيان جمالية ألوانها ؛ فهذا التغير في منظرها ولونها يترك أثرا محببا لدى المتلقي من أهل البادية والصحراء كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( فاطر/٢٧ ))٢6 . بينما ورد اللون الأبيض في أية أخرى ترغيبا للمؤمنين في الجنة دار الآخرة وحثهم على العمل الصالح ؛وبيانا لمنزلتهم ومستقرهم فكان وصف شرابهم فيها باللون الأبيض دلالة على جماليته من جهة ، ومن جهة أخرى دلالة على طهارته ونقاوته . إضافة إلى أن اللبن يعد غذاءً رئيسا عند العرب ، لاسيما عند أهل الجزيرة العربية ، فاللبن لديهم معادل موضوعي للحياة ؛ وزادهم المتيسر لهم في حلهم وترحالهم ، لارتباطه بدوابهم من إبل للقاطنين في الصحراء ، وأبقار وغنم للساكنين في المناطق التي يغلب عليها الطابع الحضري او الزراعي كما في قوله تعالى : ( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (الصافات / 46)) ٢7 . وحمل نفس دلالة الآية السابقة البياض المادي والبياض المعنوي الدال على الطهارة والنقاء . أما في الآية الثالثة التي جاءت ملتصقة بتوصيف النساء ، فلم يخرج اللون الأبيض من نسقه السابق في دلالته الجمالية لتأثيره في المتلقي ورغبته فيه ؛ فجاء توصيف نساء أهل الجنة باللون الأبيض دون الإشارة إلى أجزاء أجسادهن وإنما كان وصفا مجملا ، وقد حملت هذه الدلالة نسقا جماليا لرغبة الإنسان في النساء البيضاء لاسيما في بيئة تقل من يتسمن بهذا اللون ، وقد أشرنا إلى ذلك بسبب طبيعة البيئة أو التمييز العنصري والطبقي النابع من استرقاق السود ومعاملتهم معاملة غير إنسانية ، لذلك جاء التوصيف لنساء أهل الجنة بهذا اللون لكون المرأة ذات البشرة البيضاء لها منزلة ومكانة تختلف عن غيرها لديهم فهي ( كونها مصونة تحت الجناح )٢8 . لذا جاء وصفهن باللون الأبيض كما في قوله تعالى : ( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( الصافات /49)) ٢9 .
إنَ الأيقونة اللونية بوصفها علامة تامة غير مرهونة بالمشابهة أو الاقتران فقط ، بل أنها ذات خصائص ودلالات رمزية تعبر عن طبيعة المتلقي ومجتمعه ، وقد يكون الدال الأيقوني اللوني والدال البصري من مادة واحدة ؛ ولكن مدلولها يختلف باختلاف شكلها ؛ بسبب اختلاف إدراك المتلقي .
وردت الأيقونة اللونية البيضاء في النسق القرآني اثنتي عشرة مرة في خمس عشرة أية موزعة على السور المكية والمدنية ، وحملت دلالات متعددة ومتنوعة تمثلت بالقدرة الإلهية ، ووصف شراب أهل الجنة وزوجاتهم ، ولتأييد الأنبياء في إثبات نبوتهم ، وانعكاسا للعمل الصالح على وجوه الصالحين من أهل الجنة ، وبيان دلالة زمنية مقرونة بفعل عبادي ، وجاءت ذات اثر جمالي ولوني ، فضلا عن تحول البياض إلى حالة مرضية للدلالة على عظم الفاجعة .