ظهور المذهب البيوريتاني في عهد الملكة اليزابيث
ا.د. حيدر طالب حسين
جامعة كربلاء
كلية التربية للعلوم الإنسانية /قسم التاريخ
نحت حركة الاصلاح الديني في عهد الملكة اليزابيث او الياصابات ( 1558 – 1603 ) منحا آخرا اختلف عن عهد الملوك الذين سبقوها في هذا الميدان ( هنري الثامن ، ادوارد السادس ، ماري ) حتى انه اطلق على النصف الثاني من القرن السادس عشر بـ (( عصر الياصابات )) والسبب يعود للدور الكبير الذي ادته في ميدان الاصلاح الديني ، فلم يعرف عنها رأيا واضحا في أي من المذاهب سواء الكاثوليك ام البروتستانت ، بل انها سعت الى ارضاء الطرفين بغض النظر عن توجهاتها الشخصية ، فهي لم تؤمن بالكاثوليكية لأن الكاثوليك عدوها ابنة غير شرعية للملك هنري الثامن ولم يحضروا حفل تتويجها ، لذلك نراها ميالة للبروتستانت ، الا انها لم ترد ان تبغض الكاثوليك لانهم يشكلون نسبة كبيرة في تلك المرحلة من المجتمع الانجليزي ، لذا فإنها سعت لانتهاج جملة من الاجراءات توفق من خلالها بين الطرفين وان كان هناك بعض المتطرفين ممن لا يقبل بالحلول الوسط ، واول تلك الاجراءات هي الاستناد الى البرلمان لإصدار التشريعات الدينية والسماح للمعارضين والمؤيدين لسياسة الملكة للمشاركة بالنقاشات البرلمانية الدينية ، وعليه فقد اصبح المعتدلون من كلا المذهبين اقرب لسياسة الملكة التي عرفت باسم النظام الأنغليكاني او التسوية الأنغليكانية والتي ارتكزت على قانون السيادة وقانون المذهب الواحد ، وبالتالي فقد سعت الملكة من خلالهما الى فصل كنسية انجلترا او الكنيسة الأنغليكانية عن كنيسة روما ، وهذا ما تحقق بالفعل اذ اصبحت كنيسة انجلترا مستقلة والغيت فيها سلطة البابا بموجب قانون السيادة ، ليس ذلك حسب بل اعيد اخضاع الكنيسة للسلطة الزمنية التي يمثلها الملك ، وهو ما كان قد سنه الملك هنري الثامن ، كما نص القانون الاخر على ان نظام الكنيسة الأنغليكانية يعتمد على كتاب الصلوات البروتستانتية الثاني لعام 1552 ، والذي تضمن (39) بندا مع اجراء بعض التعديلات عليها ، وقد وضعت هذه البنود من قبل لجنة من الاساقفة عام 1563 ، وتضمنت هذه التعديلات ملابس القساوسة والعقيدة ( القربان ) ، وكذلك اصدار العقوبات ضد المخالفين او المعارضين للمذهب الواحد الذي تبنته الكنيسة الانجليزية بتوجيه من الملكة اليزابيث ، فضلا عن قوانين اخرى صدرت لاحقا نصت على ان يكون زواج القساوسة قانونياً ، وبشكل عام ان الاصلاحات التي جاءت بها اليزابيث كانت كاثوليكية ظاهرا بروتستانتية من حيث الجوهر ( العقيدة ) ومع مرور الايام توطد المذهب الاخير في المجتمع الانجليزي بموجب هذه الإصلاحات.
في الوقت الذي لاقت فيه اصلاحات الملكة اليزابيث قبولا واسعا من المعتدلين من كلا المذهبين نلاحظ ان هناك فئة من البروتستانت المتطرفين عارضت هذه الاصلاحات كونها جاءت كاثوليكية من حيث المظهر ، وقد انقسمت هذه الفئة على قسمين الاولى وهم المتطرفين المعتدلين الذين اطلقوا على نفسهم تسمية المتطهرين Puritans اما القسم الاخر فهم الانفصاليين او المتطرفين Separatists ، وخلال عهد الملكة اليزابيث فقد شق المتطهرون او البيوريتان طريقهم في المجتمع الانجليزي واستطاعوا ان يكونوا كتلة لا يستهان بها اجتماعيا وبرلمانيا .
ان الاضطهاد الذي تعرض له البيوريتان من قبل الملكة اليزابيث والمجلس الاعلى للكنيسة الأنغليكانية يعود للعداوة التي اظهروها هؤلاء للإصلاحات الكنسية التي قامت بها الملكة ( الاصلاحات مارة الذكر ) لان عقيدتهم كانت تقوم على الايمان بالكتاب المقدس واعتماده مصدرا وحيدا للعقيدة الدينية دون الاعتماد على اقوال القديسين او رجال الكنيسة او الخضوع لما يتم اتخاذه من قرارات بهذا الخصوص من قبل الملكة لذلك نلاحظ انهم كانوا في خلاف سواء مع الكنيسة الكاثوليكية ام الأنغليكانية الامر الذي سبب اضطهادهم في بادئ الامر ، وهذا كان له دورا ايجابيا لهم سبب اتساع القاعدة الجماهيرية المؤيدة لهم .
ومن ابرز الافكار التي نادى بها البيوريتان والتي ادت الى اضطهادهم هي رفضهم رقابة الدولة على الكنيسة ، وارادوا ان تكون لدياناتهم الرقابة على الدولة ، فضلا عن ان بعض قياداتهم في تلك المرحلة اظهروا عدم قبولهم بل واحتقارهم لحكم النساء ، وهم بذلك انما قصدوا الملكة اليزابيث الامر الذي سبب كرهها لهم اكثر من كرهها للكاثوليك الذين لم يؤيدوا حكمها كونها ابنة غير شرعية للملك هنري الثامن ، ولكن افكار البيوريتان بجملتها كانت قد ادت الى ازدياد مؤيديهم ، وبالتالي فقد شكلوا اغلبية في مجلس العموم عام 1572، ومن خلال مواقعهم اخذوا يسعون لنشر افكارهم والتي وجدت الملكة انها تهدد التسوية التي عقدتها لإنهاء الصراع الديني ، لذا شجعت الاساقفة (أساقفة الكنيسة الأنغليكانية ) على محاربة افكار البيوريتان ، فأوقف مطبوعاتهم ، ومنع اجتماعاتهم رئيس الاساقفة باركر Parker ، وتابع هذا النهج خليفته جون وتجفت John Whit gift حتى انه طلب الى جميع رجال الدين الانجليز ان يؤدوا قسما بقبول المواد التسع والثلاثين وكتاب الصلوات ( للكنيسة الأنغليكانية ) والسيادة الدينية للملكة ، وعرض كل من خالف اليمين على محكمة اللجنة العليا ، وهذه الاجراءات التي ايدت من الملكة بل كانت بتوجيهها ، ادت الى انفصال البيوريتان عن كنيسة لندن واسسوا كنائس خاصة بهم ( ابرشيات ) وبرز منهم رجال دين كبار تبنوا سياسة جديدة تقوم على حرية أي جماعة مسيحية في تنظيم عباداتها وتشكيل عقيدتها على اساس الكتاب المقدس وتختار رؤسائها وقادتها وتحيا حياتها الدينية متحررة من أي تدخل اجنبي ولا تعترف الا بحكم الكتاب المقدس ( الانجيل ) وسلطان المسيح .
ومن الجائز القول بان الدين ادى دورا هاما وتغلغل في الحياة اليومية عند اليهود وحدهم ، كما فعل عند البيوريتانية ، والحق ان الاخيرة اتفقت مع اليهود في كل شيء تقريبا في ماعدا الوهية المسيح وشجعت معرفة القراءة والكتابة حتى يقبل الجميع على قراءة الكتاب المقدس ، وكان ثم ولع شديد بالتوراة ( العهد القديم ) لأنه يقدم نموذجا لمجتمع تسيطر عليه الديانة ، وكان الشغل الشاغل في الحياة هو الخلاص من النار والشيطان موجود حقا في كل مكان ونعمة الله وحدها يمكن لفئة قليلة مختارة ان تفوز بالخلاص ، وتضمن كلام البيوريتان واقوالهم عبارات من الكتاب المقدس ومجازاته ، واشرق في عقولهم التفكير في الله والمسيح او تجلياتهما لهم ، وملأتهم خشية ورهبة و لكن لم يفكروا قط في السيدة مريم ، واتسمت ملابسهم بالبساطة والكآبة وخلت من اي زينة او زخرف كما اتسم كلامهم بالوقار والرزانة مع البطء وكان منتظر منهم ان ينأون بأنفسهم عن اللهو والدنس واللذة الحسية .
ان هذه الافكار التي جعلها البيوريتان نهجا لهم ومعارضتهم بذلك اليزابيث سبب اضطهادهم ، واول الاشكال الحقيقية لذلك الاضطهاد تمثلت بإعدام اثنين من اتباعهم شنقا عام 1583 ، ثم تلاه سجن خمسة من اعضائهم في البرلمان في عام 1586 ، ومقابل ذلك زاد البيوريتان من حدة خطابهم المعارض لكنيسة لندن وسياسة الملكة ضدهم ، وضمنوا ذلك في كراسات مطبوعة سرا ، فساء الملكة إجراءهم وكرست الجهود وزرعت العيون لمعرفة واعتقال من يقوم بطبع تلك الكراريس ، الامر الذي سبب لجوئهم الى هولندا للتخلص من تلك الملاحقة ، الا ان بعضهم القي القبض عليهم واعدموا عام 1593 ، وفي العام نفسه اصدر البرلمان قانونا نص على ” ان كل من يعترض على السيادة الدينية للملكة ، او يتغيب عمدا عن الصلوات في الكنيسة الأنغليكانية ، او يشهد ( اجتماعات او صلوات سرية غير مشروعة او لقاءات تحت ستار ممارسة العقيدة او ادعاء لممارستها ) يعاقب بالسجن ، فاذا لم يتعهد بالتزام العقيدة الرسمية ، عليه ان يغادر انجلترا دون رجعة ، والا كان جزائه الموت “ .
وفي وسط هذا الارهاب الذي فرضته البلاد على نفسها (على البيوريتان) كادت انجلترا ان يتقلص ظلها واستسلمت انسانية عصر النهضة وطبيعة عصر اليزابيث المفعمة بالحيوية الى شعور بالذنب وخوف من الانتقام الالهي ، وبهذا الخوف وذلك الشعور نظر الناس الى مسرات الحياة وكأنها ارجاس من عمل الشيطان او تحديات للآلهة ، وعاود قسما اكبر من الناس المخاوف من الطبيعة البشرية والجسد التي كانت سائدة بين الرهبان في الاديرة، واعلن بعضهم ان كل عناق ((دعارة)) وكل رقص مشترك (فسق وفجور) وفي نظر معظم البيوريتان كانت الموسيقى والزجاج الملون والصورة الدينية والاردية الكهنوتية البيضاء والكهنة الممسحين بالزيت كلها امور تحول دون الاتصال بالله والاتجاه اليه ، ودرسوا الكتاب المقدس بعناية فائقة واقتبسوا عباراته في كل حديث وفي كل فقرة تقريبا ، وطرز بعض المتحمسين المتعصبين (من البيوريتان) ثيابهم بنصوص مقدسة وحرم البيوريتان الصالحون استخدام مستحضرات التجميل وترتيب الشعر على انها ضرب من الزهو والغرور والتفاهة ، وسموا بالاسم المستعار ” ذوي الرؤوس المستديرة Roundheads ))” لانهم قصو شعورهم بشكل قصير جدا ، ونددوا بالمسرح على انه فخر، وبمطاردة الدببة والثيران على انها عمل وحشي ، وبأخلاق البلاط على انها وثنية ، كما استنكروا الاحتفالات والاعياد الصاخبة وشرب المسكر ولعب الورق وحرموا كل الالعاب أيا كانت في يوم الراحة ، وقالوا انه يوم الرب ، ومد البيوريتان تشددهم في تحريم الالعاب والملاهي وفي الانقطاع الى العبادة والراحة في ايام الاحاد ( قوانين الاحد الزرقاء ) ، الى يوم عيد الميلاد ورثوا اسلوب الاحتفال بمولد المسيح بالمرح والرقص والالعاب ونسبوا معظم تقاليد عيد الميلاد الى اصول وثنية ، وطالبوا بان يكون عيد الميلاد يوما مهيبا للصوم والكفارة ، وكما اكدت البروتستانتية على العظمة اكثر مما فعلت الكثلكة ، فأن البيوريتان كذلك توسعوا فيها حتى الى ابعد مما جرى عليه البروتستانت ونهض معظم الوعاظ البيوريتان بمهمتهم في جدية بالغة فارهبوا مستمعيهم بأوصاف الجحيم ، ووبخوا معارضي ومرتكب المفاسد بأشد العبارات ، وعدوا انفسهم المرشدين للناس والهادين لسلوكهم ، كما انهم حثوا على العمل الجاد النشيط واجازوا من الوجهة الدينية المشروعات والمغامرات التجارية والملكية الخاصة وكان الفقر لا الغنى في نظرهم هو الخطيئة ، لأنه ينم عن الافتقار الى الخلق الشخصي والى نعمة الله .
وكان البيوريتان من الناحية السياسية يتوقون الى حكومة دينية وديمقراطية لا يكون فيها بين الناس الا فروق اخلاقية ودينية ولا يكون فيها حاكم غير المسيح ولا قانون سوى كلمة الله وكرهو الضرائب الباهظة التي تعود للكنيسة الأنغليكانية وشعر رجال المال منهم ان هذه الكنيسة الرسمية العليا الباهظة النفقات ( تحلبهم ) وتستنزف اموالهم ودافع البيوريتان عن الثراء ولكنهم احتقروا الترف الخامل الذي كان يدخل فيه النبلاء وتمسكوا بالأخلاقيات الى حد التطرف ، ولكن ربما كانت مبادئهم القاسية تصحيحا ضروريا للانحلال الخلقي في عصر الملكة اليزابيث وانجبوا بعضا من اقوى الشخصيات في التاريخ مثل كرومويل وملتون والرجال الذين فتحوا الفيافي والقفار الامريكية ، ودافعوا عن الحكومة البرلمانية ونظام المحلفين واول انتصار تحقق لهم تمثل بحربهم على المسرح ، اذ ان كل ما تميزوا به من لاهوت قائم على الاصطفاء والرفض وخلق متزمت ومزاج قاسي وحديث انجيلي كان يتناوله المسرح بالتجريح والتسخيف عن طريق الصور الكاريكاتورية الفاضحة التي لا تغتفر الا ان ردة فعلهم كانت مباشرة لمن يقوم بهذه الافعال من عاملي المسرح ومنها انه يقذف بالتفاح والبيض الفاسد ما نتج عنه احترام البيوريتان ]الزائف[ من قبل كتاب المسرح .
وبهذه الطريقة من التضييق على البيوريتان انقضت فترة الملكة اليزابيث بوفاتها عام 1603 ، وآلت المملكة بعدها الى جيمس الاول ملك اسكتلندا ( 1603 – 1625 ) ابن ماري ستيوارت اخت اليزابيث ، وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ بريطانيا السياسي اطلق عليه تسمية عهد (آل ستيوارت) الذي استمر من عام 1603 الى عام 1688 .