عتبة العنوان: ” قناع بلون السماء” – دراسة سيميائية
م.م رؤى يعقوب لفتة
تُشكل عتبة العنوان، كأول لقاء بين النص والقارئ، مدخلًا رئيسًا لعالم النص الأدبي، وبوابة عبور تكشف عن بعض ملامحه وتُحفز على الولوج إلى أغواره. إنها بمثابة عهد أولي يُعقد بين القارئ والنص، يحدد مسارات القراءة ويُشكل أفق التوقع.  وتزداد أهمية العنوان كعتبة نصية في الرواية الحديثة، التي تتميز بتعدد مستويات السرد وتعقيد البنية السردية.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل عتبة العنوان في رواية “قناع بلون السماء” للكاتب الفلسطيني  باسم خندقجي ، من منظور سيميائي. يسعى التحليل إلى استكشاف الدلالات العميقة للعنوان، وفكّ شفراته اللغوية والرمزية، وكشف علاقته بموضوع الرواية وفضاءاتها المتعددة. كما يهدف إلى فهم دور العنوان في توجيه القراءة، وبناء المعنى، وتشكيل توقعات القارئ.
أولاً:  الإطار النظري والنص الموازي
  1. السيميائية: مدخل إلى علم العلامات:
تُعرف السيميائية، أو علم العلامات (Semiology/Semiotics)، بأنها العلم الذي يدرس العلامات وأنظمة العلامات (Signs and Sign Systems)، وكيفية إنتاج الدلالة وفهمها من خلال مختلف العلامات والرموز اللغوية وغير اللغوية.  ترتكز السيميائية على مفهوم “العلامة”  كوحدة أساسية للمعنى، وتُعنى بتحليل مكونات العلامة وعلاقاتها مع غيرها من العلامات داخل نظام معين.  وتُطبق السيميائية على مختلف مجالات المعرفة، بما في ذلك الأدب، حيث تُستخدم لتحليل النصوص الأدبية وفك رموزها، وكشف العلاقات بين العلامات اللغوية، والبنية السردية، والسياق الثقافي والاجتماعي. 
2ـ مفهوم النص الموازي:
يُعد “النص الموازي” Paratexte مصطلحًا محوريًا في نظرية السرد، صاغه الناقد الفرنسي جيرار جينيت Gérard Genette. يُشير المصطلح إلى جميع العناصر اللغوية وغير اللغوية التي تُحيط بالنص، وتُشكل معه وحدة متكاملة، وتُساهم في تقديمه للقارئ وتوجيه قراءته.
ينقسم النص الموازي، بحسب جينيت، إلى قسمين رئيسيين:
 * النص المحيط بالنص (Péritexte):  وهو كل ما يُحيط بالنص داخل الكتاب نفسه، مثل العنوان، والعنوان الفرعي، واسم المؤلف، والإهداء، والمقدمة، والهوامش، والفهرس، وتصميم الغلاف، ونوع الخط، وغيرها.
 * النص الفوقي (Épitexte):  وهو كل ما يُحيط بالنص خارج الكتاب، ويُشير إليه بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل المقابلات مع الكاتب، والمراجعات النقدية، والرسائل، والمذكرات، والإعلانات، وغيرها.
.3. عتبة العنوان: الوظائف والأهمية:
تُعد عتبة العنوان (Title) من أهم مكونات النص المحيط بالنص، وأكثرها تأثيرًا في تشكيل العلاقة بين القارئ والنص. فهي بمثابة بطاقة تعريف للنص، تُقدمه للقارئ وتُعرفه به.
وتضطلع عتبة العنوان بوظائف متعددة،  أهمها:
 * الوظيفة التعيينية (Désignative): يُشير العنوان إلى النص ويُميزه عن غيره من النصوص.
 * الوظيفة الإغرائية (Séductive):  يجذب العنوان انتباه القارئ ويُحفز فضوله لقراءة النص.
 * الوظيفة الإخبارية (Informative): يُقدم العنوان معلومات أولية عن محتوى النص، وموضوعه، وجنسه الأدبي.
 * الوظيفة التأويلية (Interprétative):  يُشكل العنوان مفتاحًا لفهم النص وتأويله، ويُوجه القارئ نحو تفسير معين.
 * الوظيفة الأيقونية (Iconique):  يُصبح العنوان رمزًا للنص وعلامة دالة عليه،  تُختزل محتواه وتُمثله بصريًا.
 * الوظيفة التجارية (Commerciale):  يُساهم العنوان في ترويج الكتاب وتسويقه، خاصة في ظل المنافسة الشديدة في سوق النشرالفصل الثاني: تحليل سيميائي لعنوان رواية “قناع بلون السماء”
2.1. تفكيك بنية العنوان:
يتكون عنوان رواية “قناع بلون السماء” من شقين رئيسيين: “قناع” و”بلون السماء”. ويُشكل هذان الشقان وحدة دلالية متماسكة، تُحيل إلى عوالم متناقضة ظاهريًا،  وتُثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة بينهما.
. قناع:
 يُشير مصطلح “قناع” إلى غطاء يُستخدم لإخفاء الوجه أو تغييره،  ويُصنع عادة من مواد مختلفة مثل الخشب أو الجلد أو القماش
* الدلالة الرمزية:  يحمل القناع دلالات رمزية غنية ومتعددة عبر التاريخ والثقافات. فهو يرتبط بالتخفي، والتمثيل، والازدواجية، والخداع، والغموض. كما يُستخدم في الطقوس الدينية، والاحتفالات الشعبية، والعروض المسرحية.
 * الدلالة في سياق الرواية:  يُشير القناع في الرواية إلى  إخفاء الهوية الحقيقية، والتظاهر بشخصية أخرى، وهو ما يرتبط بتجربة الشخصيات الرئيسية في الرواية. كما يُمكن ربطه بمفهوم الهوية الملتبسة، والصراع الداخلي بين الظاهر والباطن، والبحث عن الذات في ظل واقع مُعقد.
. بلون السماء:
 يُشير مصطلح “بلون السماء” إلى اللون الأزرق، وهو أحد الألوان الأساسية في الطيف المرئي
 * الدلالة الرمزية:  يرتبط اللون الأزرق في الثقافة العربية والعالمية بدلالات رمزية متعددة، مثل الصفاء، والهدوء، والسكينة، والروحانية، والأمل، والحرية، واللانهاية، والاتساع.  كما يُمكن ربطه بالحلم، والخيال، والسمو.
الدلالة في سياق الرواية:  يُشير اللون الأزرق في الرواية إلى الأمل، والحرية، والبحث عن الذات، وهي القيم التي تسعى الشخصيات إلى تحقيقها. كما يُضفي اللون الأزرق على القناع بُعدًا إيجابيًا، يُناقض الدلالات السلبية المرتبطة بالقناع، ويُشير إلى إمكانية التحرر من القيود واكتشاف الذات الحقيقية. وفي الرواية تشير إلى هوية زرقاء تعود لشخص يهودي .
. لعبة التضاد والمفارقة:
يُشكل الجمع بين “القناع” و”بلون السماء” في عنوان الرواية مفارقة دلالية (Paradox) واضحة. فالقناع، بدلالاته المرتبطة بالإخفاء والغموض، يتناقض مع لون السماء، بدلالاته المرتبطة بالصفاء والانكشاف.  تُثير هذه المفارقة فضول القارئ، وتُدفعه إلى البحث عن تفسير لهذا التناقض الظاهري، والبحث عن العلاقة الخفية بين شقي العنوان.
.  العنوان كعتبة تأويلية:
يُشكل عنوان “قناع بلون السماء” عتبة تأويلية رئيسة، تُوجه القارئ نحو تفسير معين للرواية، وتُحدد مسارات القراءة.  فالعنوان يُشير إلى صراع داخلي بين الظاهر والباطن، وبين الرغبة في إخفاء الذات والرغبة في الكشف عنها. كما يُشير إلى البحث عن الهوية في ظل واقع مُعقد وملتبس
. العنوان كعلامة أيقونية:
يُمكن اعتبار عنوان “قناع بلون السماء” علامة أيقونية (Icon) تُمثل الرواية وتُشير إليها.  فالعنوان يُختزل موضوع الرواية وصراعها الداخلي في صورة بصرية قوية،  تُصبح رمزًا للرواية وعلامة دالة عليها.
تتناول رواية “قناع بلون السماء” موضوع الهوية والصراع الداخلي في ظل واقع مُعقد.  تدور أحداث الرواية في سوريا خلال فترة الحرب،  حيث يعيش بطل الرواية،  صراعًا داخليًا بين هويته الحقيقية والمُتخيلة،  وبين رغبته في الاندماج في المجتمع ورغبته في الحفاظ على فرديته.
تتنوع فضاءات الرواية بين فضاءات واقعية، مثل مدينة القدس خلال فترة الحرب، وفضاءات رمزية، مثل الأحلام والذكريات.  وتُشكل هذه الفضاءات خلفية للصراع الداخلي الذي يعيشه بطل الرواية.
. ربط العنوان بالموضوع والفضاءات:
يُمكن ربط عتبة العنوان بموضوع الرواية وفضاءاتها من خلال:
 * القناع:  يُشير إلى إخفاء الهوية الحقيقية، والتظاهر بشخصية أخرى،  وهو ما يُعاني منه بطل الرواية “نزار” الذي يُحاول إخفاء هويته ككاتب  ومعارض  للنظام.  كما يُمكن ربط القناع بالهويات المُتعددة التي تُفرض على الأفراد في ظل الحرب والصراعات السياسية.
 * لون السماء:  يُشير إلى الأمل والحرية،  وهي القيم التي يسعى بطل الرواية إلى تحقيقها في ظل واقع مُقيد.  كما يُمكن ربط لون السماء بالفضاءات الرمزية في الرواية،  مثل الأحلام والذكريات،  التي تُشكل ملاذًا  للبطل من واقعه  المُؤلم.
 * المفارقة بين شقي العنوان:  تُشير إلى الصراع الداخلي الذي يعيشه بطل الرواية،  بين رغبته في إخفاء هويته ورغبته في تحقيق ذاته،  وبين واقعه  المُقيد وأحلامه  بالحرية.
يُشكل عنوان “قناع بلون السماء” عنصرًا جذابًا،  يُثير فضول القارئ ويُحفزه على قراءة الرواية.  فالمفارقة بين شقي العنوان،  والدلالات الرمزية الغنية للقناع ولون السماء،  تُشكل  عامل جذب  يدفع القارئ  إلى  استكشاف  عالم الرواية  وفكّ  رموزها. كما يُقدم العنوان معلومات أولية عن موضوع الرواية،  وفضاءاتها،  وشخصياتها.  فالعنوان يُشير إلى  موضوع الهوية،  والصراع الداخلي،  والبحث عن الذات،  وهي  الموضوعات الرئيسية  التي  تتناولها  الرواية.  كما يُشير  إلى  فضاء  الحرب  والصراعات  السياسية،  من  خلال  رمزية  القناع  الذي  يُرتبط  بالتخفي  والخوف.
يُصبح العنوان،  مع  تطور  أحداث  الرواية،  علامة  أيقونية  تُمثل  الرواية  وتُميزها  عن  غيرها  من  الأعمال  الأدبية.  فالعنوان  يُختزل  موضوع  الرواية  وصراعها  الداخلي  في  صورة  بصرية  قوية،  تُصبح  رمزًا  للعمل  الأدبي  وعلامة  دالة  عليه.
الفصل الخامس:  العنوان وعلاقته بالعناصر الأخرى للنص الموازي
تُشكل عتبة العنوان في رواية “قناع بلون السماء” عنصرًا هامًا في تشكيل المعنى وتوجيه القراءة.  يُقدم التحليل السيميائي للعنوان،  من  خلال  تفكيك  بنيته  اللغوية  والرمزية،  مفاتيح  لفهم  دلالات  الرواية،  وربطها  بموضوعها  وفضاءاتها.  كما  يُساهم  التحليل  في  فهم  دور  العنوان  في  بناء  توقعات  القارئ،  وتحفيز  فضوله  لقراءة  النص،  وتأويله.

شارك هذا الموضوع: