في أعماق التيار المتدفق لعلم النفس، ينبثق علم النفس الإعلامي كأحد الفروع الناشئة التي تشق طريقها وسط التحديات المعرفية والتكنولوجية. يحظى هذا المجال باهتمام خاص من أعضاء القسم السادس والأربعين في الجمعية الأمريكية لعلم النفس، حيث يسعون إلى ترسيخ مفاهيمه وإثراء تطبيقاته في مجالات الحياة المختلفة. ورغم حداثته، يحمل علم النفس الإعلامي بين طياته سحر الاكتشاف ومسؤولية التوجيه في عصر تتحول فيه وسائل الإعلام والتكنولوجيا إلى أدوات جوهرية في تشكيل الوعي والسلوك البشري.
لكن، كيف يمكن تعريف علم النفس الإعلامي؟
رغم أنه يُعرف عادةً بأنه تطبيق للنظريات والنماذج والمفاهيم النفسية على التفاعل البشري مع وسائل الإعلام والتكنولوجيا، إلا أن هذا التعريف لا يحيط تمامًا بعمق واتساع هذا المجال المتشعب. فهو لا يقتصر على مسار علمي محدد، ولا يقدم إجابات مباشرة وسهلة في عالم التكنولوجيا الرقمية المتغيرة باستمرار، بل يتداخل مع علوم أخرى كعلم الاجتماع، وعلم النفس السيبراني، وعلوم الاتصال، وعلوم الإعلام والإعلان، ليشكل إطارًا شاملاً لفهم التأثيرات المتبادلة بين الإنسان ووسائل الإعلام.
لماذا علينا دراسة علم النفس الإعلامي؟
إن الحاجة إلى دراسة هذا المجال تنبع من عدة عوامل أساسية:
انتشار تكنولوجيا الإعلام في كل مكان، وتأثيرها على جميع جوانب الحياة.
الاستخدام الواسع لهذه التقنيات عبر مختلف الفئات العمرية، مع إقبال الشباب عليها أكثر من غيرهم.
قلق كبار السن والمجتمع عمومًا حول تأثير هذه التقنيات على الأجيال الصاعدة.
استمرارية تطور التكنولوجيا وعدم إمكانية التراجع عنها.
التساؤلات المتزايدة حول تأثيراتها الإيجابية والسلبية، وما يمكن فعله حيالها.
كون علم النفس يدرس الإنسان في جميع مراحله العمرية، فإنه يعد المفتاح لفهم هذه الظاهرة وتحليلها بشكل علمي.
علم النفس: المفتاح الأساسي لفهم الإعلام
يُعد علم النفس بوابة مركزية لفهم تأثيرات التكنولوجيا على الحياة البشرية. وعلى الرغم من أنه قد يبدو سهلاً تعريف علم النفس الإعلامي، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة. فقد دارت نقاشات طويلة حول مفهوم “الإعلام”، وما نعنيه تحديدًا بالتفاعل البشري مع الوسائط والتكنولوجيا. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن الإعلام لم يعد مجرد وسائل تقليدية كالتلفزيون والصحف، بل أصبح واقعًا افتراضيًا متشابكًا مع حياتنا اليومية، بدءًا من استخدام الهواتف الذكية وحتى التفاعل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ساهمت وسائل الإعلام وعلم النفس في تشكيل الثقافة الغربية الحديثة، فكما أن مفاهيم فرويدية مثل التحليل النفسي تخللت الصحافة والأدب، كذلك فإن تكنولوجيا الإعلام أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس اليومية. هذا الوعي المتزايد بالإعلام جعل الحاجة إلى فهمه أكثر إلحاحًا، إذ لم يعد مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبح عنصراً مؤثراً في تشكيل الأفكار والمواقف والسلوكيات.
دور علم النفس الإعلامي في المجتمع
يهدف علم النفس الإعلامي إلى استكشاف العلاقة المتبادلة بين الإنسان والتكنولوجيا، ليس فقط من حيث المحتوى الإعلامي، ولكن من خلال تحليل النظام الإعلامي بأكمله، بدءًا من مطوري التكنولوجيا إلى إدراك المستخدمين وردود أفعالهم. ويشبه هذا التحليل ما وصفه ألبرت باندورا في نظريته المعرفية الاجتماعية، حيث تتفاعل البيئة والسلوك والإدراك في حلقة ديناميكية مستمرة.
علم النفس الإعلامي: ضرورة في عالم متغير
نحن بحاجة ماسة إلى علم النفس الإعلامي، ليس فقط لفهم تأثير التكنولوجيا، بل لمساعدتنا على التكيف مع هذا التطور المتسارع. يمكن لعلماء النفس الإعلامي أن يسهموا في:
مساعدة الأفراد على التأقلم مع التحولات التكنولوجية السريعة.
تحليل الأخبار والدراسات الإعلامية بشكل نقدي ومسؤول.
توضيح الفرق بين الارتباط والسببية في تأثيرات وسائل الإعلام.
تفسير كيفية تأثر تجربة الوسائط بالسياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة.
التأكيد على أن الإعلام ليس مجرد أداة محايدة، بل يمكن أن يكون قوة دافعة للارتقاء والتنوير.
التحديات أمام علم النفس الإعلامي
يواجه هذا المجال تحديات كثيرة، أبرزها سرعة التطور التكنولوجي، والتغير المستمر في وسائل الإعلام، مما يجعل تعريفه وتحديد نطاقه مهمة صعبة. كما أن التصورات الخاطئة عن علم النفس الإعلامي لا تزال قائمة، حيث يُنظر إليه أحيانًا على أنه مجرد تدريب لعلماء النفس للظهور في وسائل الإعلام، بينما هو في الحقيقة مجال متعدد التخصصات يجمع بين علم النفس والتكنولوجيا لدراسة تأثير وسائل الإعلام على الأفراد والمجتمع.
من هو اختصاصي علم النفس الإعلامي؟
يتميز اختصاصي علم النفس الإعلامي بقدرته على الجمع بين الفهم العميق لعلم النفس والمعرفة الدقيقة بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام. وهو ليس مجرد عالم نفس إكلينيكي، ولا مجرد متخصص في الإعلام، بل هو شخص يسعى لفهم كيفية تطور واستخدام تقنيات الإعلام وتأثيرها على السلوك البشري. ولكي يصبح الفرد مختصًا في هذا المجال، لا بد له من امتلاك المعرفة العلمية حول كيفية عمل تقنيات الإعلام، إضافة إلى فهم النظريات النفسية التي تفسر سلوك المستخدمين.
ختامًا
في عالم يزداد ارتباطه بالتكنولوجيا والإعلام، يبرز علم النفس الإعلامي كأداة أساسية لفهم هذه التحولات. إنه مجال يُعنى بتفسير العلاقة بين الإنسان ووسائل الإعلام، ويسعى إلى استكشاف كيفية تفاعل الأفراد مع التكنولوجيا، وتأثيرها على حياتهم اليومية. وكما كان سقراط يخشى أن تؤدي الكتابة إلى فقدان القدرة على التفكير النقدي، فإننا اليوم نواجه مخاوف مشابهة تجاه الوسائط الرقمية وتأثيرها على عقولنا وسلوكنا. لكن يبقى علم النفس الإعلامي مرشدًا في هذا العالم الرقمي، حيث يمدّنا بالأدوات اللازمة لفهم هذه التغيرات والتفاعل معها بطريقة واعية ومسؤولة.