• علي بن ابي طالب عليه السلام منهجا للنبوة في التنمية الاقتصادية
ان سياسة التنمية بعيدة الغور ، قد يتصورها البعض هي مجرد الحث على العمل واتقانه لحدوث التغيير ، لكن في واقع حالها هي اعمق من ذلك ، ومدلولاتها العملية في الفكر الاقتصادي الاسلامي موجودة ، وان دولة الاسلام طبقتها بأروع ما يمكن ان تحققه من حركة نهضوية اقتصادية زمن النبي صلى الله عليه واله ، حتى يحدونا الامر للقول : انها مفخرة انسانية ، فهي انموذج يمكن تطبيق فلسفتها في كل زمان ومكان لبناء اقتصاد مزدهر ، مع علمنا بالفارق الزمني الذي نحن نتحدث فيه ، لكن اذا ما اتخذنا دليل او دليلين على قولنا نجده نافع لبيان الحجة وايصال الفكرة ، والبرهنة على ان خطط النبي صلى الله عليه واله التنموية هي مدرسة متكاملة يمكن العمل وفق منهاجها في وقت نشاء .
ومن هذه الشواهد التي اخترناها كيفما اتفق – لان الشواهد في عهد النبي صلى الله عليه واله كثيرة جدا – وثيقة المدينة ، فلم نأتي تأويلا في حدثها أو نحملها ما لا تطيق ، وللناقد الخبير ان يجد صحة ما ندعيه فيها ، فالوثيقة هذه لم تعن فقط في وضع الية الكم الناس في المدينة او سياستها ورسم صلة الناس ببعضهم البعض وقيام التكافل بينهم حسب ، يل هي اعمق في دلائلها من ذاك ، فمنظور الحكم لمن آمن بالله وحده لا شريك له بيد النبي صلى الله عليه واله ، وهو المعني الاول بسياسة الدنيا وتنظيم امور الدين ، وهو المرجع الوحيد لهم في بيان امر الله جل علاه ، وهذا لا يحتاج الى توثيق ، وإن قلنا : ان هناك من لا يؤمن بالنبوة في المدينة ، مثل اليهود او حتى المنافقين ، لكن هذا امر محسوم لا جدال فيه ، إذن السؤال ” ما المغزى من وراء ذلك ؟ والجواب هو ان الدافع من بناء نظام عام يحكم المدينة عاصمة الدولة المرتقبة يهدف بأصله الى اقامة تنمية حقيقة شاملة ، اذ من دونها لا يمكن ان تكون دولة ، فلا امة من غير مجتمع متماسك ولا دولة من غير ارض مصانة معروفة حدودها ، وكل هذا يبنى بعنصر المواطنة وبناء النفس على الولاء للوطن والامة والدين ، ومن ذا تكون بواكير التنمية ومنها الاقتصادية ، فأقام النبي صلى الله عليه واله مجتمع متماسك موحد ، فبدل ان يقيم افراد الامة ولاءاتهم للعشيرة والقبيلة اقامها للمجتمع ، ثم عرفهم ان المجتمع لا يمكن ان يقوم الا اذا كانت له ارض يعمرها ، وبهذا بنى صلى الله عليه واله عنصر المواطنة ، والصق الفرد بالوطن ، ليقيم بعد ذلك الركن الثالث ( الدولة ) التي حكمها بحكم الله عز وجل وفق ايديولوجية شرحها القران الكريم واضحة ، فصارت هذه الدولة وذاك المجتمع محكوم بقانون يسير فيه لتنظيم شؤون حياته وتطورها ورفاهية العيش في حياة آمنة ، وهذه من اهم انماط التنمية واعظمها ، لان التنمية الاقتصادية تبدأ أولا بالفرد والمجتمع – العامل البشري – وهذا براي علماء الاقتصاد المعاصرين
والمثال الثاني فتح خيبر: ففي الجزء الذي فتح عنوة منها ، ترك الارض لليهود حتى يقوموا بواجب الارض وابقى المسلمين خارج حدود العمل المباشر بها ، مقابل ان لهم خراجها على القسمة بينهم واليهود ، وقد علل بعضهم ان سبب ابعاد المسلمين عن الضرب في الارض هو لدواعي الحاجة الماسة للمقاتلة من جهة وان المسلمين ليسوا اهل دراية بمزاولة الزراعة من جهة اخرى ، لكن الامر لا يتعلق بهذا الراي ابدا ، فمن باب الجهاد فكل مؤمن مكلف بواجبه عند الحاجة وان كان يزاول مهن او حرف تطلبتها ضروريات الحياة ، فالتخلف عن الجهاد بفتوى النبي صلى الله عليه واله ادخله بإشكال شرعي ، لذا العمل لم يكن عائق ابدا امام جهاد المسلمين ، والادلة هي كثيرة ، فضلا عن دعوته صلى الله عليه واله للمسلمين بضرورة مزاولة الاعمال بمختلف اشكالها تحقيقا للتكامل الاقتصادي في المدينة ، ثم الم يكن اهل المدينة اهل زرع وحرث حتى انه صلى الله عليه واله جعل الوزن وزن مكة والكيل كيل المدينة لانهم اهل زرع وهم اخبر الناس به . 
لكن مرد ذلك انه صلى الله عليه واله كان يصبوا الى تمتين اقتصاده وتطويره بما يحقق التنمية الفعلية وتحسين مستوى العيش لكل سكان دولته ، بما في ذلك اليهود انفسهم – اهل خيبر – اي معالجة متوسط مستوى دخل الفرد في المجتمع في مفهومنا الحالي ، وارتفاعه بنسب مذكورة تصاعدية عما كان سائدا قبل الفتح ، فدخول خيبر ضمن معادلة ارض الدولة حقق امرين ؟ الاول : هو دخول اصل نماء جديد ، اي مورد اولي يساعد على قيام نشاط اقتصادي مستمر محقق لقيم انتاجية نافعة للامة والمجتمع ، تزيد من طاقاتها الانتاجية ، التي تنعكس بدورها على تحسين مستوى الدخل في المدينة أو على اقل تقدير توفير مستلزمات الحياة الرئيسة –  الغذاء – وان هذه القيم المنفعية ، هي التي تشكل الزيادة في الانتاج بالمقارنة مع نسبة السكان ، اي مسلمي المدينة المنورة ، ثانيا : دخول قوة بشرية عاملة الى حدود الدولة ، بمعنى ولادة قوة عمل منتجة صانعة للقيم الانتاجية والمنافع ، وهم هؤلاء اليهود الذين شاركتهم الدولة الاسلامية في ناتج قوة عملهم مناصفةً لقاء بقائهم عاملين في ارض الدولة ، والمناصفة في انتاج ارض خيبر من قوة عمل اليهود هو الفائض المتحقق لسكان المدينة ، الذي حقق فعليا تنمية اقتصادية اسهم بشكل كبير في تطوير اقتصاد دولة المدينة وتدفع فيما بعد بحركة السوق وتنشيط الصنائع المختلفة فيه ، ناهيك عن اموال الجزية والتنوع الحرفي الحاصل من خبرات اليهود .
وبما ان الارض صارت بعد الفتح من فيء المسلمين ، إلا انه ابقاها بيد اهل الذمة ليستحصل على نافع ناتجهم ، ثم لتكون سبب في معاشهم فلا يجوز تركهم بعد ان صاروا في ذمة الاسلام من غير مأوى يأويهم أو سبب يعيلهم ، هذا الى جانب الرحمة في مفهوم النبوة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ ، وان ترك جمع كثيف من البشر من غير اسباب الكسب وطلب الرزق سيثقل كاهل الدولة ، فكيف لها ان تعيل جموع البطالة والعاطلين عن العمل وهم قوة عاملة نافعة ، القوة البشرية الفاعلة الجديد المساقة الى الدولة .
باختصار كان هذا البناء البشري والتغيير الحقيقي في الانظمة الاقتصادية التي اتبعها النبي صلى الله عليه واله على قاعدة للأيديولوجية الاسلامية التي فرضها الله سبحانه في محكم كتابه الكريم – مع تحقيق عدالة اجتماعية – هي التي حسنت جودة الانتاج وزادة قيمه المنفعية ، ورفعت مستويات دخل الافراد بشكل ملحوظ عصر النبوة ، ابتداءً من توفير مستلزمات الحياة الملحة – الغذاء- وصولا الى السير نحو بناء اقتصاد متكامل بانت فيه بواكير النهوض والانتعاش نهاية مدة حياته الشريفة ، التي رافقتها تنمية صحية ومعرفية ملموسة بين افراد الامة ، فكانت دوافع الاستدامة في التنمية موجودة ، ولو قُدر للأمور ان تسير وفق نصابها لكان وضع دولة الاسلام على نهجه السليم قد مضى حتى يومنا .
ومن هذا المنهل شرب علي بن ابي طالب عليه السلام ، واعيا مدركا لكل جزئياته ، فعمل على نهجه ولم يغير قيد انملة ، ومصداق قولنا كم النصوص الواردة عنه قولا او فعلا بين طي الكتب ، ولولا اننا معنيون فقط بوصيته لعامله على مصر مالك الاشتر رضي الله عنه لقيدنا منها ما يظهر انماط اوامره وافعاله في السير بالبلاد نحو التنمية الاقتصادية ، في كل بقعة من الارض دانت لسلطان حكمه ونفاذ رأيه وأمره ، لكن قبل ان نمضي قدما في فرضية بحثنا التي هي التنمية الاقتصادية في فكر علي بن ابي طالب عليه السلام دراسة في نصوص وصيته وعهده التي هي بمثابة دستور حكم اعطاها لعامله مالك وأمره الاخذ بها ، نجد من الواجب والمفيد ان نتعرض لمفهوم التنمية الاقتصادية وفلسفتها إجمالا ، ليتمكن القارئ او الباحث من فهم ما نكتبه وان امير المؤمنين عليه السلام قد وصل في فلسفته لإدارة الدولة الى هذا المضمون الاقتصادي وحث عليه وأمر ، كما اننا جعلناها معيارية وضابطة تحكم بحثنا ، والشواهد التي نأتي بها من نص العهد لمالك الاشتر ، لثبات فكرة التنمية الاقتصادية عند أمير المؤمنين قولا وفعلا من عهده ذلك ، علما ان عصر أمير المؤمنين علي عليه السلام كان ازهى عصور الاسلام اقتصاديا بعد النبي صلى الله عليه واله ، ولو لا اننا في بحث مقتضب ومعني بالتنمية الاقتصادية في العهد فحسب لبينا بالأدلة المحاكية لواقعية ما جرى فعله اصلا على الارض أبان مدة حكمه للامة الاسلامية التي دامة اربعة سنوات ، وعلى هذا فان منهاجه كان منهاجا مطابقاً لمنهاج النبوة .
 

شارك هذا الموضوع: