عنف العاطفة ولينها بين الجواهري وبدوي الجبل
 
    لا شك في أن العاطفة هي مدد الشعر , وعنصر مقوم في كيانه , إذا انعدمت العاطفة انعدم الشعر, وأصبح نظماً كما هو الحال في ألفية ابن مالك , وكذلك في الأفكار المنظومة الكثيرة , كالمنظومات في الطب والمنطق وغيرها من المنومات التي تخلو من العاطفة.
    والعاطفة تتدرج , فهناك عاطفة صاخبة ,وهناك عاطفة هادئة, وهناك عاطفة عنيفة وأخرى لينة, ومن كل ذلك يتكون شعر .
    أما لماذا تكون العاطفة شديدة, وتكون لينة ؟ فلذلك أسباب ترجع الى البيئة والنشأة , ومن الأمثلة القديمة على العاطفة الشديدة المتوقدة العنيفة, عاطفة المتنبي, ومن الامثلة على العاطفة اللينة عاطفة البحتري, ومن تلك العاطفتين صيغ شعر رفيع عالي القدر.
     ونريد أن نستوضح العاطفة اللينة والشديدة. من شعر الجواهري وبدوي الجبل.
بدوي الجبل : محمد بن سليمان الأحمد , ولد سنة 1903 م في اللاذقية السورية , في قرية تسمى (ديفة) من جبل العلويين , نشأ بدوي الجبل في جوٍ روحيٍ, وتلقى المعارف الدينية الأولى في ببيت أبيه ؛ اذ كان ابوه فقيها وأديبا وسياسيا . وفكر بدوي الجبل قومي عربي .
    زاول الشعر من بدء حياته , وإنَّ البيئة الجغرافية في الشام بيئة خضراء غنية بأمطارها ونباتاتها , وهي ليست كالبيئة التي نشأ فيها الجواهري.
   إذا البيئة الجغرافية, وكذلك الفكر الصوفي اللين , هما عنصران أمدَّا بدوي الجبل بتكوينه النفسي والأدبي الاول.
    أما الجواهري فقد ولد سنة 1907 م أو 1900 م على خلاف في ذلك . وامتد به العمر , ولد في بيت فقه ودين وكان أبوه فقيها وشاعراً, , وكان جدُّ أبيه مرجعاً أعلى في وقته , وهو الشيخ محمد حسن صاحب الجواهري , المتوفى سنة 1850م , أما أبوه ( عبد علي) فقد كان مقبلا على الحياة بلذائذها, وقد نشأ نشأة فقهية.  لم يكن في تلك البيئة للتصوف من أثر, بل لم يكن مرغوبا فيه , والنمط المعرفي السائد هو الفقه , بمقدماته من لغة ونحو و غير ذلك.
    أما التصوف المسمى بـ(العرفان)  فلم يكن مرحبا به , والبيئة التي  نشأ فيها هي رملة شحيحة المياه قليلة الشجر على خلاف البيئة التي  نشأ فيها بدوي الجبل  .
 ومن الأشياء التي يتذكرها الجواهري في حياته ويتألم منها هي :أنَّه كان يُجبر على حفظ نصوص من الشعر والنثر , ومجالسة الكبار, ويرى أنَّ طفولته ضاعت بسبب هذين الجانبين .
    وهناك جانب ثالث هو طبيعة المجتمع , فالمجتمع العراقي مقارنة بالمجتمع الشامي يعد مجتمعا عنيفا , وهذا يرجع الى أسبابٍ كثيرة منها : الطبيعة الجغرافية الجافة . و توالي حكومات جائرة ؛ والجور والعنف وعاطفة العنف تعدي , فيتشرّبها الطفل ثم يعبّر عنها عندما تتاح له الفرصة .
   إذاً تهيأت الأسباب الطبيعية والجغرافية والبشرية والثقافية لان يختلف هذان الشاعران في العاطفة, فتكون العاطفة عنيفة عند الجواهري ,وليِّنة عند بدوي الجبل.
شواهد على اختلاف العاطفة :
انشد الجواهري في سنة (1949م) في حفل تكريم (هاشم الوتري) وهو من ابرز أطباء بغداد وعميد لكلية الطب, وكان قد كرِّم في بريطانيا , وأقامت له الدولة العراقية حفلا, وكان جميع رجال الدولة حاضرين. فقال الجواهري :
إنِّ أمامك ماثلا متجبراً             أطأُ الطغاة بشسع نعلي عازبا
يتبجحون بأنَّ موجا طاغياً           سدُّوا عليه مسالكا ومساربا
كذبوا فملئ فم الزمان قصائدي        أبداً تجول مشارقا ومغاربا
أنا حتفهم ألج البيوت عليهم         طُغر الوليد بشتمهم و الحاجبا
    وهذه العاطفة عند الجواهري هي عاطفة عنيفة وليست هادئة , والغريب أن ابن عمته الشاعر علي الشرقي ,الذي نشأ معه في بيت واحد كان ذا عاطفة لينة , حتى حينما يريد أن ينتقد أحداً فينتقد بعاطفة لينة , والسبب أنَّ الشرقي نشأ يتيما فكان مضطرا أن يتعود المراعات والمدارات للآخرين.
   التقى الجواهري مع بدوي الجبل في مهرجان أبي العلاء المعري سنة (1944م) في سوريا والقى كلٌّ منهما قصيدة.
قال الجواهري:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا     واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
واستوحِ من طبّب الدنيا بحكمته     ومن على جرحها من روحه سكبا
 
في حين بدأ بدوي الجمل بعاطفة ليِّنة هادئة بقوله :
حَلِيَ الديم كرامة للراحِ     عجبا أتسكرنا وانت الصاحي؟!
ويقول الجواهري في القصيدة ذاتها:
وقد حمدت شفيعا لي على رشدي       أمَّاً وجدت على الإسلام لي وأبا
لكن بي جنفا عن وعي فلسفة             تقضي بأن البرايا صُنِّفت رتبا
وأنَّ من حكمة ان يجتني الرطبا            فردٌ بجهل ألوفٍ تعلك الكربا
لثورة الفكر تاريخ يحدثنا                     بأنَّ ألف مسيح دونها صُلبا
    فهذه عاطفة عنيفة عند الجواهري , أما بدوي الجبل ففي نفس قصيدتهِ يقول :
من راح يحمل في جوانحه الضحى      هانت عليه أشعة المصباحِ
أعمى, تلفتت الدهور فلم تجد           عند الشموس كضوئه اللَّمَّاحِ
 ويمضي في قصيدته في عاطفة ليِّنة هادئة , ومنها قوله :
إيهن حكيم الدهر أيُّ مليحةٍ     ضنت عليك بعطرها الفواح
اسكنتها القلب الرحيم فرابها    ما فيه من شكوى ورجعٌ واحِ
 
وللجواهري قصيدة أخرى , يقول فيها :
هذا أنا, عظم الضحية ريشتي    أبداً ونفح دمائها أضوائي
 
    زاول بدوي الجبل السياسة وشقي بها ,وقف ضد الفرنسيين والقي عليه القبض, لكن عاطفته لم تتأثر حتى حينما يشمت بسقوط فرنسا تحت الاحتلال الالماني,يقول :
أني لأشمت بالجبار يصرعه       طاغٍ ويرهقه ظلما وطغيانا
 
وأيضا كان على خلاف مع عبد الناصر وهجاه في قصيدتين , واحده اسمها (كافور) والأخرى ( فرعون)
يقول :
كافور قد جن الزمان       واليك آل الصولجان
الخالدان ولا أعد الشم      س شعري والزمان
وفي قصيدة أخرى بعد 1967م بعنوان من وحي الهزيمة سخر منه ومن قيادته ومع ذلك كانت عاطفتها لينة بعيدة عن العنف .
وخلاصة القول أن درجات العاطفة تتفاوت من شاعر وآخر بين عنف ولين, ولكنها في حالتيها تنتج عند الشاعر الموهوب شعرا عالياً.
 
 

شارك هذا الموضوع: