غاية الشاعر العباسي من السخرية
أ.د.فهد نعيمة البيضاني
قد يتصور فريق من دارسي الشعر العربي أنَّ شعر السخرية هو شعر الطبقات المترفة ، وهو زائد عن أنواع الشعر الأخرى ، ويقرأ لأجل التسلية ومجالس اللهو ، بيد أننا وجدنا العكس من ذلك فهو المرآة العاكسة لآلام ألأمة ، وتطلعها صوب الأفضل على المستويات كافة ، فضلاً عن تعبيره عن معاناة الإنسان العربي في تلك الحقبة وضيقه وسخطه على الحياة وعلى الظروف التي تحيط به ، فإذا كان الهجاء أسلوباً بدوياً في مجتمع أولي ، فالسخرية أولى أن تكون في مجتمع متحضر ؛ إذ هي تحتاج إلى النظر العقلي في الساخر والمسخور منه .
وقادت السياسة الخاطئة التي انتهجتها الخلافة العباسية على مستويات متعددة عامَّة الناس إلى التذمر من الوضع القائم آنذاك ، فأنت تجد قصور الخلافة عامرة بكل ما لذَّ وطاب ، وتجد ميزانية الدولة مسخرة لملذات الخليفة وحاشيته ، بينما نجد النقيض على الطرف الآخر ، فالشعب يرزح تحت آلام الجوع والفقر والحرمان ، لذلك انبرى شعراء السخرية يجسدون هذا الواقع بصورهم المعبرة الشجاعة ، فالسخرية سلاح هجومي بيد أنه لا يخرق الأعراف ولا يتحدى القوانين إذا أجاد الشاعر في استعماله ظاهراً أو باطناً في عبارات والتفاتات ذكية ، فإننا نجد كثيراً من الشعراء والأدباء قد أدركوا ما تنطوي عليه الحياة من نقائص ومعايب في السلطة والحكم فلم يخفوها عن الناس ، وكانت الصورة الساخرة تعبر عن مرارة دفينة في نفوس الرعية ؛ إذ مثَّلت السخرية في ميدان السياسة دوراً خطيراً ، بما تملكه من تأثير وقدرة على لفت الأنظار وجذب الانتباه نحو الظواهر البارزة في نظام الحكم أو أخلاق بعض الساسة وانحرافاتهم ، ونستطيع أن نكون رأياً عاماً أو تحرك الرأي العام نحو هدف معين .
ويمكننا أن نقول بتعبير آخر إنَّ الشعر الساخر مجروح يضحك ، فمن هذه الجروح مثلاً جرح دفع بشار ( ت167هـ) إلى الصراخ قائلاً ساخراً :
خليفة يزني بعمّاتـــــه يلعب بالدبوق والصولجـــان
أبدلنا الله به غيـــــره ودسَّ موسى في حر الخيزران
كان وقع هذين البيتين قاسياً على الخليفة ، والصورة الساخرة قد لا تحتاج إلى جهد في تفسيرها ، فخليفة المسلمين وأميرهم لا يحرم ما حرم الله ، وفاسق ، ومتصابي ، ويذكر لنا التأريخ أنَّ بشاراً قد دفع حياته ثمناً لهذه الصورة الساخرة ، والمرارة بادية على الشاعر إلى الحد الذي يتمنى به موت الخليفة ، ولا نقف عند مدى صحة ما ذهب إليه الشاعر في البيت الأول ( خليفة يزني بعمّاته ) ، بيد أننا نجده قد ركز على المبادئ الأخلاقيَّة التي يجب أن يتحلّى بها خليفة المسلمين ، هذا إذا ما نظرنا إلى الصورة من جانب آخر .
وفي صرخة أخرى شجاعة من بشار نجده يقول ساخراً بالخلافة :
بنو أمية هبوا طال نومكـــم إنَّ الخليفة يعقــوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمســوا خليفة الله بين الزق والعـود
نلحظ التركيز نفسه على الجانب الديني المعيب الذي صوره الشاعر ؛ إذ إنَّ الخلافة قد انحرفت عن مسارها ، وما صوت الشاعر إلاّ دعوة إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه ، ومع إيماننا بأنَّ صوت الشاعر ما هو إلاّ صوت للرعية ، فقد مثَّلت الصورة الساخرة سيفاً مسلطاً تسلطه الجماعة على رقاب الخارجين على معايير الجمعية وأعرافها العامة ، وكل من تحدثه نفسه بالخروج على قوانين الجماعة وأساليب سلوكها ، ليرتد من جديد إلى حظيرتها ، فضلاً عن أنَّ الشعراء الساخرين يختصمون الحكام ويخرجون عليهم من أجل طبقات الشعب الكادحة ، وهم في شعرهم الساخر هنا يرمزون إلى ظلم ، وينتقدون سياسة ، فيخففون عن أنفسهم وعن غيرهم أعباء الحكم وأثقال الحياة ، ويجد الآخرون في شعرهم ما يسليهم عن همومهم وأخطار حياتهم .
ولأبي نواس ( ت200هـ) صورة ساخرة لا تقل حدة عن صورة بشار السابقة ؛ إذ وصف الوزير جعفر بن يحيى ساخراً :
عجبت لهارون الإمام وما الــذي يرجى ويبغى فيك يا خلقة الشلـق
قفا خلف وجه قد أطيل كأنَّـــه قفا مالك يقضي الأمور على بثـق
واعظم زهواً من ذباب على خرا وأبخل من كلب عقور على عـرق
أرى جعفراً يزداد بخلاً ودقـــة إذا زاده الرحمن في سعة الرزق
فابتدأها بخطاب الغائب ( الخليفة ) ثم الانتقال إلى خطاب الحاضر ( الوزير ) ، وهذه التفاتة لجذب الانتباه ، فضلاً عن رغبة الشاعر في تنزيه الإمام هارون عن خطأ اختيار الوزير ، وحصر العيب بالوزير جعفر فقط ، فمن صورة ساخرة جسدت عيوب خلقية ( قفا خلف وجه ) ، إلى صورة ساخرة أخرى ( وأعظم زهواً من ذباب ) جسدت عيب خلقي إلى صورة ثالثة ذمت صفة خلقية أخرى ( وأبخل من كلب ) استطاع أن يرسم لنا الشاعر معايب عدة كونت شخصية الوزير جعفر ، فنقد الوزير هو نقد للسلطة بشكل عام ، صحيح أن الشاعر ظاهراً قد نزه الخليفة من خطأ الاختيار ، بيد أننا ومن جهة أخرى نلمح الإشارة إلى خطأ تدبير الأمور في اختيار قادة الدولة وما يجره هذا التدبير على الرعية من ظلم وحيف .