ـ العمل في المنظور القرآني والواقع المكي قبل عام الفتح .
       إن السبيل الامثل لإيصال فهم جيد لمبدأ العمل طبقاً لإيديولوجية الملاء المكي ومنظوره له – اي العمل – وباقي معاشر الناس تحتم علينا لزوم ايضاح مفاهيم القرآن الكريم للعمل ، إذ منها – ونعني تلك المفاهيم – يتسنى لنا اخراج فكرة تحاكي واقع ما كان فعلا الى درجة كبيرة ، بحسب معطيات النصوص القرآنية وما تسعفنا به كتب التفاسير ، فنعلم كيف نظر الملاء ومعاشر الناس من القرشيين الى العمل ، وما البون الذي كان يعتريه فيفرقه ويُغايره عن منظور القرآن وفكرته ، وهل كان لهذا البون أثر – ولو جزئياً – في معاندة قريش للنبي(r) ومحاربتهم له ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ ﴿ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ هم ملاء قريش ومن لف لفيفهم من معاشر قومهم .
       إذاً فالعمل وفقاً للمنظور الاسلامي هو المصدر الوحيد للمكاسب ، إذ على إساسه تترتب المنافع التي من شروطها – اي المنفعة – ان تكون منفعة اجتماعية ، وهي بطبيعة الحال مضبوطة بقوانين تحكمها ، شرحتها آيات القران الكريم والسنة النبوية الشريفة تفصيليا ، اي ان العمل استناداً لهذا المنظور هو المصدر الوحيد الذي يخلق المنافع المادية ، بصفته النشاط الواعي المنتج للقيم التبادلية ، تحاكي واقع انساني شمولي ، ويراد به انتاج القيم التبادلية للمنافع المادية ، لكن ليس هذا فحسب ، بل جزء منه انتاج قيم انسانية رفيعة – بناء الانسان لذاته – لان اكتساب المهارات المعرفية من جراء مزاولة العمل تنهض بالنفس البشرية وتجعلها تسموا فترتقي بها في حياة انسانية افضل ، فالعمل وفق هذا الاساس يُعد قاعدة لازمة لاستمرارية البشر من جهة ، وأخرى لبناء ذاته البشرية، فالخالق سبحانه أوجد الخلائق كلها على مبدأ العمل ، فعلى الرغم من قدرته سبحانه على ايجاد الاشياء دونما وقت يحدد او طاقة تذكر ، فقال تعالى : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ إلا أنه سبحانه أوجدها – اي الخلائق والاشياء – بفعل العمل فقال جل علاه : ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ و أيضا ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ  ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾، لذلك خلق الله سبحانه الانسان ليعمر الارض فيصلحها ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ ، لأنه – الانسان – تميز عن الخلائق بقدرة العمل ، فكتب عليه تحقيق لما مر ذكره وليس للتعبد فقط ، قال تعالى : ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، لذا كان العمل مصدر حياة الانسان وسر ديمومتها .
       ونجد من المفيد ان نضرب مثلاً لإيضاح فكرة ذلك فنقول : ان قدرة الاشياء من مصادر الثروة على الانتاج لا تحقق الربحية من غير ان يقع عليها عنصر العمل ، مثل وقوع الحرث والزرع والسقي على الارض فتنبت فتحقق المنافع والمكاسب للناس وتدوم حياتهم .
       ومن ذلك كان منظور الاسلام للعمل على انه مصدر المكاسب والمنافع الصالحة ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ الآية السابقة الذكر ، لكن ما المراد بلفظ المحكمات الشرعية التي وردت آنفا في أول الفقرة ؟ وجواب ذلك هو مجمل القوانين التي اشترطت آيات القران مراعاتها اثناء تأدية العمل حتى يُصف العمل بأنه صالح ، فيحقق منافع اجتماعية عادلة يشترك المجتمع كله في منافعه ، سواء أكانت بقيمة العمل – الاصيل أو المأجور – ام بمنافعه وتسعير ناتجه فيحقق السعادة للمجتمع اجمع ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ و ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ و﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ و ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، وهذه الآيات الكريمة تبين ان العمل لم يكن غاية ربحية على حساب مصالح المجتمع ، فحاربت الربا ، واثابت من عمل صالحا ، فمدلول لفظ العمل الصالح في القران الكريم  لا يدل على صالح العبادات فقط وانما كل ما يحصل من الانسان فعله حتى العمل بقصد الكسب – العمل عبادة – لهذا اثاب الله سبحانه من عمل صالحا من عباده فقال : ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾  وكذا ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ فالثواب بقدر الصلاح ، والكسب بقدر اتقان العمل ، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
       وفي العمل تغيرت اجور المكاسب وتنوعت بحسب نوع العمل واتقانه ، سواء أكان عملا فيه مهارة واتقان ويحتاج الى حذق وخبرة عقلية مثل الطبيب أو المعلم ، أم ذاك الذي يؤدى بقوة العضلة مثل البناء والنجار والحداد ، بمعنى آخر ان المكاسب لا تقاس بمقدار ما ينفق من جهد عضلي أو مدة انجاز العمل أو سهولة وصعوبة في ادائه ، وإنما بنوع العمل ودرجة اتقانه ، فشيء طبيعي ان يختلف كسب الطبيب عن النجار ، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ وايضاً ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132﴾ .
       أما مضامين العمل في أيديولوجية الملاء المكي ومن سار بفلكهم فيختلف وصفه إذ قام على اساس نماء المال – التعامل الرأسمالي في المضاربات الاقتصادية – فقوة العمل وسيلة لتحقيق الربح باي طريقة كانت ليُستفيد من فائض الربحية في نماء رأس المال ، على اساس استغلال قوة عمل الأُجراء مقابل أجر يسير من القيمة التي يذهب فائضها اليهم – الملاء من أصحاب رؤوس الاموال- فيحققون ارباحا فاحشة ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ و ﴿ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ فيساعدهم جني أموالهم على فرض هيمنتهم على قواعد العمل في السوق حتى على أصحاب المهن والحرف الاحرار ممن يعملون بصفتهم مالكين لقوة عملهم في أعمالهم وليسوا اجراء ، لكن كسبهم لا يوازي عملهم أو متطلبات عيشهم ، فالرأسمالية هي الملكية لوسائل الانتاج ومقادير العمل في السوق والمتحكمة بقيم العمل ، لذلك تفرض الاجور بما يناسب تطلعاتها لا ما يفيد نماء المجتمع اقتصاديا – افراد المجتمع – حتى يكون الربح مكافئ للعمل تحقيقا للعدالة الاقتصادية لأبناء المجتمع ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ ، فالعمل يقوم على الاستغلال والحفاظ على اشكال العمل مخافة كساد تجارتهم ، كونها تقوم على اساس التملك الفردي وهذه من سمات العمل بالإتجار واحتكار رؤوس الاموال ﴿ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾، وضاربوا بالربا واستنزفوا اموال الناس وطاقاتهم ، حتى باتوا لا يعني لهم من الامر شيئا ، فقال تعالى يصفهم : ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾.
       ومما ساعد على رسوخ فكرة ان العمل هو فرض استخدام لقوة عمل الاخرين على اداء الاشغال والاعمال في موجبات الحياة ، ان الرأسمالية المكية – الملاء – كانت حاكمة ، إذ ان الملاء المكي كان يمثل الحكومة السياسية والاقتصادية والزعامة القبلية في مكة ، فأوجدوا ما يناسبهم من تشريعات ساسوا بها الناس باسم ملاء مكة ودار الندوة ، فتعاظم شأنهم وأموالهم حتى امتلكوا ﴿ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾، وكنزوها ﴿ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ ، ولم يقتصر عملهم على هذا بل يخسرون الاوزان ﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ وغيروا بِالدَيْنٍ واستوفوا اضعاف اموالهم ، لذا امر الله المؤمنين ان يكتبوا دينهم ولا يقعوا بما كان اصحاب الربا يفعلون ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، فصار مفهوم العمل في هذه الحقبة الزمنية الفائدة من قوة العمل من أجل نماء رأس المال، وهذا بطبيعة الحال يطابق الى درجة كبيرة مفهومه لدى الدول الرأس مالية في الوقت الحاضر ، مع الفرق المتحصل من اختلاف الوسائل لتحقيق الربحية بين العصرين.
 

شارك هذا الموضوع: