في المسرح ونقده
عند محمد مندور(1907-1965م)
عنى الدكتور محمد ندور عناية خاصة بهذا الفن ونقده ؛ إذ يفوق ما كتبه في هذا الباب عن الأجناس الأدبية الأخرى ، فقد تناول المسرح من جوانب: النظرية ، والتاريخ ، والنقد.
أقفُ هنا عند الأدب التمثيلي ، ذلك أنّه أعمُّ من المسرح. ويقطعُ مندور بغربية الفن التمثيلي، وأنّ شعراء العربية لم يبدأوا في معالجته إلّا منذ قرن من الزمان ، وأن هؤلاء أخذوه عن الغربيين الذين بدورهم تعلموه عن اليونان القدماء.
لا يشك الدكتور مندور أن الأدب التمثيلي عند اليونان وثيق الصلة بديانتهم الوثنية ؛ لتشخصيها وتجسيمها وعرض مبادئها. وقد تحدّث عن نوعي المسرحية عند اليونان ، وهما الكوميديا : مهزلة ضاحكة، والتراجيديا : مأساة حزينة ، ويرى إنّهما وُلدا للاحتفال بأعياد الإله”ديونيسوس”، وهنا يوضّح مندور خطأ ما جرى عليه الناس في التمييز بين المسرحية التراجيدية ، والمسرحية الكوميدية ؛ إذ نظروا الى خاتمة كلّ منهما ليحكموا في نوعها ، لكنّه يرى انّ المقياس ليس صحيحاً على اطلاقه.
ويقفُ محمد مندور على هذا الجنس الأدبي ، فالمسرحية اليونانية نوع قائم بذاته ــــ كما يرى ــــ ، حتّى انّه لم يمتد وصولاً الى المسرح الأوربي ، وحين جاء القرن السادس عشر ، ظهرت أولى المحاولات لتأليف مسرحيات تُحاكي ما جاء به الاغريق من قبلُ . ويرى أنّ المسرحية اليونانية تختلف اختلافاً كبيراً عن المسرحية الحديثة ؛ إذ لم يعد لها شبيه على الاطلاق في الأدب الحديث.
وعودٌ على مسألة الأدب التمثيلي وواقعه العربي ، وجد الأستاذ مندور انّ الديانة اليونانية القديمة التي نبع عنها الأدب التمثيلي عند اليونان (( لم تكن تتعارض مع الإسلام ، بل مع الوثنية العربية القديمة . وذلك لأنّ اليوناني القديم لم يتصوّر آلهته كقوى منفصلة عن الإنسان ومن نوع يغايره ، بل تصوّرها على شاكلته، وخلع عليها كافة صفات البشر بما فيهم من ضعف وقوّة))؛ ولهذا لم نجد الأدب التمثيلي موجوداً عند العرب القدامى ؛ لاختلاف وظيفته الدينية بين الغرب والعرب . وهو لا يقف على قدم واضحة في مسألة معرفة المصريين القدماء للمسرح ، فإنْ كان كذلك، فإنّهم كانوا يعرضون بواسطته بعض أساطيرهم الدينية
وفيما يخص هذا الموضوع يرى الأستاذ ادوار حنين الذي استند الى ((تحريم الإسلام لصنع التماثيل محاربة منه للوثنية الجاهلية)) في تعليله عدم وجود الأدب التمثيلي عند العرب من قبلُ ، وهنا يرى الأستاذ مندور أن هذه حجة واهية الصلة بالأدب التمثيلي.
ويثير مندور قضيّة مهمة ، هي عدم التسليم بوجود مسرح أو شيء يُشبهه عند المصريين القدامى ، ويذهب الى أكثر من ذلك ؛ إذ يقطع بأن المسرح فنّ غربي؛ لأنّنا إذا سلّمنا بوجود مسرح مصري فإن الصلة قد انقطعت تماماً بين مصر القديمة ، ومصر العربية الحديثة ، وتلك الصلة هي اللغة التي ما عادت هي.
أما علاقة العرب بالأدب التمثيلي بصورة عامة ، وبالأدب بوجه خاص حديثة؛ إذ ظهرت أول محاولة عربية لهذا الفن في بيروت في العام 1848م بفضل التاجر مارون النقّاش. وهنا يجزم مندور بأنّ أوّل محاولة كان على يد النقاش ، ولم يعترف بوجود أدب مسرحي قبل ذلك الوقت ؛ إذ يستبعد كل من الفنون الآتية : القرقوز ، وخيال الظل ، والحكواتي ، أن تكون بدايات للمسرح العربي. معتمداً في ذلك على “أرزة لبنان” الذي ألّفه نقولا نقاش ، والذي طبعته المطبعة العمومية في العام 1869م.
ثم ظهر في سوريا أحمد أبو خليل القباني ، الذي التقط هذا الفن من مسرحيات مثّلتها فرقة فرنسية في دمشق ، ونشط في تقدّم هذا الفن منذ سنة 1878م حتى سنة 1884م ، وهي السنة التي غادر فيها الى مصر ليتمّ نشاطه فيها.
ولكنّ هذه البدايات التي قال بها مندور عند النقّاش والقباني ، لا تعني -أبدًا- أنها بداية فعلية ، حقيقية ، للمسرح ، ذلك أنّها -بنظره- مجرّد وثائق تاريخية لنشأة المسرح، ولا يظنُّ انّ يومًا يأتي عليها وتدرّسُ في الجامعات ؛ لما فيها من ركاكة ، ولغة عامية.
أما وظيفة المسرح فهي كما يرى أرسطو في حياتنا هي التطهير ، والتطهير هو ((تطهير النفس من شهواتها ، وذلك بتحريك عاطفتين في النفس البشرية هما : الرحمة والخوف)). لكن محمد مندور لم يقف عند هذه الوظيفة فقط ؛ وإنما يذهب الى أبعد من ذلك بقوله : (( ولا شكّ أنّ “أرسطو” عندما قال بها كان قد نسي أو تناسى الأصول الدينية لنشأة المسرح ، فالمسرح قد نشأ في عبادة الإله “ديونيسوس” ولكن “أرسطو” وقد وضع أسّس التفكير المجرد لم يرَ بُدّاً من أن يتلمس للمسرح مصدراً إنسانياً لا يخضع للملابسات ولا يتقيّد بزمن أو عبادة)) ، ويرجح مندور أنّ المسرح لا يذهب بروح التعليم ، بل بروح المتعة العقلية أو الفنية ، وهي روح لها شأنها في نجاح المسرح في أداء رسالته ، أو عدم نجاحه ، ويرى أن لها وظائف أخرى أخلاقية ، واجتماعية ، ونفسية.