في رحاب الامام الصادق (عليه السلام )قراءة في قصيدتي (يا شيخ طيبة) و(المدينة والنهر المقدس) 
أ.د.سها صاحب القريشي 
   لا يخفى أن الامام الصادق عليه السلام كان رائد النهضة العلمية والدينية في وقت تزاحمت فيه انتفاضات العلويين والزيديين والقرامطة والزنج وسواهم من طالبي السلطة إلى جانب ظهور الزنادقة والملاحده في مكة والمدينة وانتشار فرق فرق الصوفية وتوزع الناس بين اشاعره ومعتزلة وقدرية وجبرية وخوارج في خضم كل تلك الفوضى والهرج والمرج الذي ساد المرحلة، ركز الامام الصادق في حركته على تمتين وتقوية الأصول والجذور الفكرية والعلمية فضلا على دوره الرسالي الرئيس باعتباره الإمام السادس من آل بيت النبوة المعصومين عليهم السلام ،فقد كثرت التفسيرات والتاويلات المنحرفة عن الخط الاسلامي الصحيح وتسربت الى علوم القران والى مباحث تخص التوحيد والصفات والنبوة وحقيقة الوحي وموضوع القضاء والقدر والجبر والاختيار حتى طال التحريف السنة النبوية المطهرة بوضع الاحاديث الملفقة والمنسوبة إلى النبي الاعظم صلى الله عليه وآله.قال الشاعر واصفا عطاءه عليه السلام:
 دهر يكر واخر يتقهقهر    وصداك يبتلع الدهور ويهدر 
دهر يكر على هزيمه اخر     ويداك بالحبر المجاهد تقطر
 لقد تعرض المسلمون بالفعل الى هزة فكرية وعقائدية بسبب سياسات الحكام انذاك لاسيما في المرحلة الانتقالية من الحكم الاموي الى الحكم العباسي ضرب فيها ايمان المسلمين وعقيدتهم وعادت كثير من قيم الجاهليه وسادت في المجتمع، كتحكيم منطق الغلبة للقوة وانحسار المبادئ القائمة على الاخلاق والانسانية الامر الذي فتح الابواب امام الافكار الفلسفية القادمة من الغرب والتي تدعي البحث في الكون والحياة فصار كثير من الناس تائهين يشككون بما آمنوا به من مبادئ الدين وثوابته كالثواب والعقاب وغيرها حتى وصل الحال إلى التشكيك بأصول الدين ،يقول الصحيح: 
فطلعت انت وفي يديك رسالة              تطفو باسرار الوجود وتزخر 
وامام شوطك امة مخطوبة                 للسيف في احقاده تتعثر 
 فلزمت مقودها وفكرك سابق            يجتاح كل مسافة لا تقهر 
هذا التاريخ الذي رسمه الصحيح على هيأة مجازات واستعارات في قصيدة (المدينه والنهر المقدس )متخذا من الصور الفنية اطارا لها يرسمه في قصيدة (يا شيخ .. طيبة) صورة هي اقرب إلى الواقعية الوصفية الصريحة من دون التخلي عما يمنحها دلالة الايحاء كما في قوله:
 يا شيخ طيبة لم يبرح بمسجدها    صداك ينبض في الجدران والقبب
وهذه حلقات الدرس يملؤها    صمت المهابة في سمت من الأدب 
تلك العلوم قناديل مقدسة    وزعتهن على الأزمان والحقب
 وربما يمكن عد الابيات المتقدمة من الصور الفنية التي اتكأ جاسم فيها على الوصف المباشر للإمام وحاله بين طلابه ومريديه في المسجد النبوي والبيان التقليدي في رسم بنا صور صورها الفنية الا انه على الرغم من وصفية الصورة وغلبة المباشرة عليها لم يحد من القيمة التعبيرية للتشبيهات الواردة ولم تكن الصورة جامدة لا حراك فيها ولم تترهل وتفقد ثبات الرؤيه وكثافتها بل استطاع وصف التجربه والتعبير عنها من خلال تركه الاثر المطلوب في ذهن المتلقي وعدم التقليل من مستوى تفاعله معها.
لقد كان عهد الامام هذا من اكثر العهود التاريخية وافضلها تهيئة لنشر علوم الدين المكونه المكنونه في صدور اهل البيت عليهم السلام التي لم يكن بالامكان نشرها فيما سبق تلك الفتره من الزمن الا انه من اصعبها واكثرها تعقيدا فقد اخذ الانحراف الفكري والعقدي او الصراع الدموي على السلطه مضافا على انحراف الحكام وطغيانهم يستدعي من الامام مزيدا من الحنكه والذكاء باتباع منهج العقل والحكمه ومطابقه التعاليم الفطرة الانسانية مما حير اكثر الزنادقة جدلا واشدهم عنادا حتى صاروا ينسلون من امامه عليه السلام مقرين بحقيقه ما يحاججهم به وفي ذلك يقول الشاعر:
 يا فارس الخلد الذي كمنت له              سقر بصحراء العقول تزمجر
 اشرقت في روح الحياة فلم تجد            في الروح غير مدينه تتصحر
 ونذرت قلبك للحقيقه قربة                    نعم القلوب لمثل ذلك تنذر 
ولان مراحل سير مدرسة الامام الصادق المباركة تغلبت على كل العقبات التي اعترضت ديمومة مسيرتها العلمية الهادفة الى تعطيل دورها في المجتمع لاسباب ياتي في مقدمتها بعد عنايه الله وحفظه لهذا الخط الاصيل الحافظ لجهود النبي الاكرم صلى الله عليه واله في اصلاح الناس وحثهم على التمسك بمكارم الاخلاق المنهجية الانسانية التي اتبعها عليه السلام في تعامله مع قاصده من رواة او سائلين مهما بلغ اختلافه معهم فروح الانسانية هي ما سادت تفاعله مع الامم الاخرى من دون الذوبان في قيمها ومفاهيمها بل مع كامل الاعتزاز بالانتماء والاصاله فما لدى المسلمين يغنيهم عن الاستغراق مع غيرهم وهذا ما اتاح لكثير من المختلفين مع بعض اسس وعقائد مدرسته الفكرية الانتظام فيها والتعاطي معها والاغتراف من معين علومها وهو ما اوقف الشاعر مبهورا في وصفه هذا المشهد عندما قال :
وارفع ستار المدى تلمح بحضرته        كيف الحياة تغني دونما طرب 
في مشهد كلما شاخ الزمان به              يظل رغما على انف الزمان صبي
 وهي من الصور الفنية الرائعة في وصف عطاء الامام وتعامله كونه قمة شامخة افاض العلوم والمعارف على علماء عصره واساتذه زمانه فكانت اساسا وقاعدة علمية وعقائدية متينة ثبت عليها ابناء الاسلام واتسعت من حولها افاقه ومداراته
 ثانيا الصورة الايحائية لعهد الامام في قصيدة المدينة والنهر المقدس
حاول الشاعر جاسم الصحيح ان يرسم لنا كل تلك الاجواء والتيارات والمذاهب والنشاط العلمي والثقافي والاحداث وتعامل الامام معها من خلال الصورة الفنية التي يمدها به خياله الوقاد بوصفها واحده من ابرز الادوات التي يستعملها الشعراء في بناء قصائدهم وتجسيد احاسيسهم ومشاعرهم فقد عبر من خلالها عن تصوره لصعوبة المرحلة وحالة التحول التي طرات عليه بفضل ما احدثته مدرسة الامام الصادق في العقول والقلوب والاخلاق وان الكشف عن الصورة لا يتم بتمثيل شيء بشيء وعد كذا وصفا لكذا وانما يكون بالتغلغل الى مكامن الصورة والتقاط رابطة بين جزئياتها ومن ثم وضع اليد على ابداعها الفني وليس معنى ان الشعر من النوع التقليدي للشطرين عدم توافره على الكلمة الموحية ذات العلاقات القائمة على تبادل المدركات باضفاء الصفات المادية على المعنوية وبالعكس وباساليب متعددة واشكال فنيه مختلفة كالتشخيص والتجسيد وكمثل قول الشاعر:
 يا فارس الخلد الذي كمنت له          سقر بصحراء العقول تزمجر
 اشرقت في روح الحياة فلم تجد        في الروح غير مدينة تتصحر 
وصمدت للصحراء حين تمردت        بالزيغ وانتفظ الهجير الاصفر 
فبعثت في اعماقها لك غارة             خضراء قائدها المصير الأخضر
 ونشرت في سقر العقول خريطه ال    فردوس يلمحها اللهيب فيدبر 
تظهر لنا الصورة الفنية مبنية على التجسيد من جانب والامعان في التشخيص من جانب اخر فبنيه الصوره المحوريه في هذا المقطع تشتمل على صور متعددة فالامام الذي هو رمز الخير والايمان وفارس الجنه والطريق المؤديه لها التي عبر عنها بالخلد لخلود من يدخلها تكمن له جهنم معبرا عنها باسم اخر من اسمائها وهي سقر مكسبا اياها صفه انسانيه من خلال التشخيص فتتحول الى ما يشبه شخصا شريرا يلعب في عقول الناس ويفتنها عن الصواب وهي بدولها العقول رغم طبيعتها غير المحسوسه يشبهها بالصحراء للدلاله على جذبها
وتحجرها وقساوتها فالنص كله يرتكز على الصور الحسيه التي تقوم على التشخيص اذ يشرق الامام في روح الحياه فلا يجد غير مدينه تتصحر وهي صوره تتجلى من خلال موقف الشاعر من الطبيعة الجميلة في القريه بوصفه احد ابنائها فهي عنده الملاذ الذي يجد فيه راحه نفسيه والملجا من صخب المدينه وهو ما يصلح ان يشبه الشاعر به تلك المرحله التاريخية من الزمن هذا ما يوحي به تنكيره لمدينه تتصحر الا انه في هذا النموذج تبدو اشكاليته المطروحة نابعة من هموم اخرى اكبر من ارادة المعنى الاول فحسب وهو ما يرتبط بالمدينة نفسها مدينة الرسول صلى الله عليه واله مدينة الوحي
ومن ثم فهو يشخص الفكره بما هي معطى معنوي من الصور غير المحسوسه فتتحول الى جسد حي حبه جرداء يمكن ان تتشرب الا ان هذا الجسد الحي يعود ليشرب من الرؤى معطى معنوي اخر من الصور الحلميه هذا التبادل في الادوار والمدركات هو ما اعطى الصور الديناميه المحركه لها في حين تتمرد الصحراء بالزيغ وينتفض الهجير الاصفر وهي صور قائمه على تشبيهات واستعارات بلاغيه من رموز الطبيعه القاسيه يلقيها على تلك العقول المتحجرة والمتحيره والمشككه والمتسلطه ليعلن من خلالها ان تفرد الامام الصادق عليه السلام بالزعامه علما وعملا العملاق ورعا وخلقا فهذه الصور كلها تستند الى مرجع معنوي تعمل الاوجه البلاغيه على احاطته بالرموز والمجازات المعتمده في التعبير التي تقوم بخلق نظام اللغه محدثه بذلك تشويشا في المعنى المعياري واذا كان جاسم لا يقول شيئا اخر غير ما يريد فان الكلمات تقول في الاستعارات شيئا اخر لا تدل عليه عاده وربما استعمال الاستعاره المركبه من شانه ان يسهم في ذهنيه الصوره وفي تجليديتها البعيده وهذا ما نلاحظه في قوله فبع فبعثت في اعماقها لك غاره خضراء قائدها المصير الاخضر فالاستعاره تتجلى في اسناد الخضراء الى الغارة التي عاده لا تستجلب سوى الظلام والخراب والدمار وهنا يكمن عنصر المفاجاه والدهشه في ذهن المتلقي الذي يحتاج الى عقل تجريدي كي يستوعبها وهذا يجردنا او يجرنا الى الحديث عن دلاله اللون وجماليته في الشعر فالتشكيل اللوني وسيله من وسائل وصف النفس الانسانيه ومظهر هام من مظاهر الواقعيه في الصور الشعريه له دور في ان يكون اداه اساسيه في الكشف عن محاور الجمال الفني في النص الادبي فاللون الاخضر هنا مثلا ياتي بكامل معانيه الداله على الحياه والحركه والسرور لانه يهدئ النفس ويسرها وهو تعبير عن الخصب والنماء والامل والسلام والتفاؤل
اذ يعد هذا اللون في الفكر الديني رمزا للخير والايمان والسكينه دلت عليه ايات القران التي وردت فيها لفظه الاخضر ثماني مرات كما في قوله تعالى فاخرجنا به نبات كل شيء فاخرجنا منه خضرا وهذا عين ما اراده جاسم الصحيح من خلعه اللون الاخضر وصفا لغاره الامام بثورته العلميه لاسيما اذا كان هذا النبات الاخضر في صحراء مجدبه فكانه غيث السماء ان همر عليها لتكتسي بالخضره والنبات الذي فيه انبعاث الخير والحياه ولذا فان استعاراته لاوصاف الامام نبعث اولا وقبل كل شيء من الماء بصورته النهر الذي شكل رافدا غنيا اشبع حاجاته كمبدع للتعبير عن حاله الامام عليه السلام ومحاوله اكسائه بالموروث الديني لامكانيته التعبير عن حالات نفسيه واجتماعيه وسياسيه بعيده الغور والتاثير في تحول المجتمع واستمرار حركته كما في قوله يا ايها النهر الذي لم يمتزج بخطيئه الطين التي لا تغفر نهر تدفق بالحقيقه فانفنت اصلابنا الاولى به تتطهر اشاره الى قصه خطيئه النبي ادم عليه السلام فكان النهر خير عون للشاعر وظفه كدال على حركه الحياه ونم الفعاليات وتطورها ولانه نهر بل سيد الانهار يقول يا سيد الانهار ابر سلاله شماء من قمم الهدى تتحدر جاءت رسالته شجليه وبقيت انت رساله شجليه النخل بعض حروفها والانهر يتسلق الايمان جذع بيانها والطهر يبسم في الجذور ويمهر وبالعوده الى دلاله اللون في الصوره فالشاعر استعاره اللون الاصفر لكل ذاك الخلط والزيف والهزل والشك والالحاد والاراء الشاذه والفرق الكلاميه مفيدا من علاقه هذا اللون بالموت والاضمحلال والفناء.

شارك هذا الموضوع: