في مفهوم التشخيص التصويري
 
أ.م.د. فلاح عبد علي سركال
جامعة كربلاء/ كلية التربية/ قسم اللغة العربية
 
       يُمثِّلُ التشخيصُ وسيلةً فنيّةً تقومُ على إضفاءِ الصفاتِ والأفعالِ والمشاعرِ الإنسانية المُتنوّعة على أشياء غير عاقلة، وغير حيّة، من جماداتٍ، ومعنويّاتٍ، وحيواناتٍ، وأشياء مُجرَّدة، وعناصر الطبيعة، واسناد السمات الإنسانية إليها من كلامٍ، وأفعالٍ، وأحاسيس، فتبدو وكأنها أشخاص حقيقية وعاقلة، فتبدو ذات حياة إنسانية فاعلة، مُؤثِّرة ومُتأَثرة، وتَكتسب تلك الأشياء عواطف الآدميين، وتشاركهم المشاعر والأحاسيس، فتأخذ منهم وتُعطي، وتجعل المُتلقي يحسُّ بالحياة في كل شيء تقع عليه عينُهُ، فهو يمثّلُ لوناً من ألوان تخييل المعنى.      
       فالتشخيصُ أحد الفنون والأساليب البلاغيّة الموظفة في تأدية الصورة الشعريّة، التي تُتيح للمنجز الشعري سمته التأثيرية والجمالية؛ إذ تبعث في المشاعر سمة الإحساس بالمُتعةِ واللذّةِ والتأثُّر بالنصِّ، ومن ثمَّ مشاركة صاحب النص إحساسه النفسي الذي يسكبُهُ داخل نَصّهِ الشعري عن طريق الألفاظ والكلمات، وبالاستناد إلى الخيال الخلاّق ليتّسم النصّ بخاصيّة التفرُّد والجمال التصويري؛ لأنَّ الصورة تُمثلُّ الوسيلة الأنسب لتقديم المعنى، بل هي حجر الأساس في القصيدة العربية وبؤرتها التي تجذب القارئ إلى أعماقها، فضلاً عن أنّها تمثّل البنية التي تتشابك فيها العلاقات وتتفاعل لتنتجَ الأثر الكليّ الذي ينفتح عليه العمل الفنّيّ ويُضيء أبعادَهُ.
     وفي ضوء ما تقدّم تُمثِّل الصورة التشخيصية ما ترسمه مُخيّلة الأديب باستعمال الألفاظ، وهو يُمثّل مجموعة من الوسائل التعبيريّة التي تنجم عنها قيمٌ فنيّة تنبّه المشاعر، وتوقظ الوجدان، وتلفت نظر المُتلقّي إلى المعنى فيتفاعل معه، وبذلك تُضفي على النصِّ شعريّته، وتمنحه القدرة على التأثير، عن طريق الانزياح اللغوي المُشكِّل لبنيتها، وبذلك تكون المظهر الأبرز للفنِّ والجمال في النصِّ الشعريّ، ومؤشراً قويّاً على عبقريّة الشاعر وإبداعهِ.
    والصُّورة وسيلة الأديب في نقلِ أفكارهِ وأحاسيسهِ، وتجربتهِ الشعريّة إلى المُتلقّي عن طريق اللغة، فهي سمة من السمات المهمّة في العمل الأدبي ، وإحدى المقومات الأساسيّة في بناء القصيدة العربيّة ، ويندر أنْ يخلو عمل شعريّ من التّصوير أيّاً كان نوعه ، والقدرة على رسم الصورة هي بلا شك أجمل وأكمل في الظهور من التعبير عن الفكرة بطريقة مُجرَّدة ، فأهميّتها تكمن في تقديم المعنى إلى المُتلقّي بطريقة جميلة تثير انفعالاته إثارة خاصّة وتدفعه إلى سلوك معيّن.    
 ويمثل التشخيص مظهراً من مظاهر الشعريّة، لأنّه يمثّل انزياح اللغة عن مقصديتها الحقيقية والابتعاد عن دلالات اللغة التقريرية إلى دلالات مجازية تَنُم عن مقدرة الشاعر على توظيف العناصر البلاغية المتعددة وتطويعها لخدمة غرضه المنشود ، فضلاً عن استثمار ما يمتلكه من خيالٍ واسعٍ وثراءٍ لغوي يمكناه من استعمال اللغة استعمالاً جماليّاً بلاغيّاً.    
     وتُعدُّ الصورة المُتأتية من التشخيص من أروع القيم الجمالية في الفن الشعري؛ لأنها رؤية فنية لا تخضع للمقاييس المنطقية، بل يضفي الشاعر بوساطتها صفات إنسانية على الأشياء المختلفة فيشكلها تشكيلاً إنسانياً، فيجعلها تتحرك، وتحس، وتعبر، وتتعاطف، وتقسو، وتتفاعل بحسب الموقف الذي شُخِصت من أجلِهِ.
     وتُعد الاستعارة والمجاز العقلي من أبرز وسائل تشكيل الصورة التشخيصية؛ لانّهما يقومان بالأساس على الانزياح اللغوي والانحراف في الدلالة، والاستناد إلى الخيال، والتشخيص في ضوء هذا الفهم اختيار معجميّ تقترن بمقتضاه كلمتان أو أكثر في مركّب لفظي اقتراناً دلالياً خارجاً عن حقيقة اللغة، تتولد عنه مفارقة دلالية تثير لدى المتلقي شعوراً بالدهشة والطرافة، وتكمن علّة الدهشة والطرافة فيما تحدثه المفارقة الدلالية من مفاجأة للمتلقي بمخالفتها الاختيار المنطقي المتوقع.
      فضلاً عن ذلك انَّ التشخيص يُقرِّب المعنى ويفيد المبالغة فيه، ويفعل بالنفس ما لا تفعلُهُ الحقيقة اللغوية، بالإضافة إلى تحسين المعنى وإبرازه، وهو إلى جانب ذلك كلّه طريق للتوليد والتجديد؛ لأنه يكشف عن صورٍ جديدة ومعانٍ بديعة تأخذ بمجامع القلوب.
    وقد أطلقَ بعض الدارسين والباحثين على ظاهرة تشخيص الجمادات، والمعنويات، والطبيعة، والحيوانات في النصوص الأدبية مصطلح (الأَنْسَنَة)؛ لكون هذه الأشياء تُضفى عليها من الصفات الإنسانية التي تَبعثْ فيها الحركة والحياة والمشاعر والوجدان وغير ذلك، فتبدوا وكأنَّها إنسانٌ حقيقي. 
    ولما كان التشخيص يُمثّل نسقاً جمالياً فقد أغرى الدراسات الأدبية ليشكّلَ إحدى المقاربات الأدبية والاشتغالات الاجرائية التي أخذت تنتشر في الدراسات الأدبية، لما يُحقّقه من بُعدٍ جماليٍّ في المنجز الشعري؛ لأنّ الجماليّة العربية صار من مهماتها صنع أوجه للتعبير الأدبيّ عن طريق شكل التعبير الذي يقوم على تخييل المعنى.       
 

شارك هذا الموضوع: