قراءة في المجتمعات القَبَليَّة
نشأَ الإنسانُ على وجه الأرض بشكلٍ فراديٍّ متناثر، ولم يكن يربطُ فيما بينه أيَّة روابطٍ مشتركة سوى الخِصال التي تجمعهُ بالكائنات الحيَّة، ويرى معظم الأنثروبولوجيين أنَّ أول سببٍ لاجتماع البشر هو اكتشاف النار، والتي تعدُّ إحدى أهم الاكتشافات البشرية إلى حد الآن، فحول النار بدأ البشر بتكوين تجمُّعات صغيرة تجمعهم روابط الدم وروابط البيئة المشتركة، وعُرِفتْ فيما بعد برابطة القبيلة.
وقد شكَّلتْ القبيلة آنذاك مصدراً مهمَّاً للقوة المحافظة على الكيان البشري من الانقراض، ورابطة الدم تعدُّ أقوى الروابط في تماسك المجتمع، فالمجتمع البدائي عبارة عن تجمُّعاتٍ صغيرةٍ يرأس كلٌّ منها ما يُعرف بـ (( الشيخ)) أو رئيس القبيلة ويكون مسؤولاً عن مُجريات الأحداث الخارجية؛ كالتحالفات وعقود الصُّلح، والداخلية كالمشاكل المتعلِّقة بالأفراد.
وكأيِّ مجتمعٍ يكون متحضِّراً ينبغي أن تنصهرَ داخلهُ هذه التجمُّعات لتصبحَ الأهداف المشتركة خاصَّة بالمجتمع نفسه بصرف النظر عن الانتماءات الصغيرة الداخلية، وذلك لأن التجمُّع القَبَلي والقوانين المتعلِّقة بهِ فردية في بداية تكوينها فيعدُّ مرحلة بدائية انتقالية من مراحل تطور الإنسان ، والسبب في ذلك يعود لانتفاء الحاجة إلى الحماية القبَلية في ظلِّ الروابط المجتمعيَّة المشتركة .
ومن هذا السبب نرى أنَّ التشجيع على الأنظمة القبلية هو العمود الثابت الذي يحافظ على التماسك في ظل غياب القوانين، ولا يعدم ذلك أنَّ النظام القبَلي يعملُ على تماسك وتفكيك أواصر المجتمع الواحد في الوقت الراهن، فهو سلاح ذو حدَّين؛ إذ أنَّ المرحلة التي عاشها الإنسان في مواجهة الطبيعة وقواها الخارقة قد انتهتْ بعد ظهور الثورة الصناعية والأنظمة الأمميَّة العالمية.
وفي البلدان الشرقيَّة ولاسيما العراق ، فكان النظام القبَلي مشفوعاً بدعاة العروبة ونداءات القوميين الامر الذي أعطى للنظام السياسي شرعية الحكم، وتعالت حينئذٍ بعض المصطلحات العشائريَّة كـ ((النَّهوة، والفصليَّة)) تتوارد في مجالس الرجال ليذهب ضحيَّتها النصف الآخر للمجتمع، على الرغم من أنَّ المثقَّف العراقي في عقود القرن الماضي قد وقف بالضد أزاء هذه التقاليد المُجحِفة بالإنسانية، فنرى أنَّ الشاعر جميل صدقي الزهاوي يقول في إحدى قصائدهِ :
كيـفَ يسمو إلى الحـضارةِ شـعـبٌ

 
مـنـهُ نصـفٌ عـن نصفهِ مستورُ

وقوله في قصيدة أخرى:
وقد يطلِّقها في حانةٍ ثملاً

 
وليس تدري لماذا طلَّق الثملُ

وغنَّى المطرب الراحل (عبادي العماري) أغنية ضجَّتْ في السبعينات، وتناولتها الصحف والمجلات، مطلعها:
 جابوهه دفع للدار.. لا ديرم ولا حِنَّة ولا صفكةْ
لا دفّ النعر بالسلف.. لا هلهوله لا مَلكة
نشدتْ الناس عن قصَّة هالبنية
عجب جاروا عليهه بغير حنيَّة
و رديت بقلب حزنان .. من قالولي فصليَّة
لعنتْ ظلم التقاليد بألف حركةْ
أمَّا في الحقبة الأخيرة ( بعد سقوط الطاغية) فقد نشط الآراء المؤيِّدة للنظام القبائلي لاسيما المثقَّفين من أبناء الشعب، ويرجع هذا الأمر إلى سببين رئيسيين:
  1. الشعور بالخوف من الأحداث السياسيَّة المتصاعدة والتي تنسحب إلى تغيُّراتٍ مجتمعيَّة كالاتهام بالإلحاد والكفر وإهدار دمه على فرض خروجه من بيئته المتوارثة، فضلاً عن انتشار الجرائم في غياب القانون .
  2. إنَّ النظام العشائري يوفِّر للفرد نوعاً من الحماية الجسديَّة أزاء ما يتعرَّض له من ضغوطات وهيمنة المتشدِّدين ودعاة اللاثقافة على مفاصل الحياة.
ومن هنا يأتي الأثر الإيجابي لهذا النظام عبر تحويله إلى مؤسسة من ضمن مؤسسات الدولة وتفعيل الرقابة الحكومية للحد من التصرُّفات الفردية التي تنعكس بالسلب على أواصر المجتمع الواحد، ناهيك عن الازدهار الثقافي في المجالس والأنشطة الأدبية والدينية فيها.
معاني المصطلحات:
النَّهوة: منع الفتاة من الزواج من شخص غريب وإجبارها على الزواج من ابن عمِّها.
الفصليَّة: جعل المرأة بوصفها ديَّة لإهدار الدم .
 

شارك هذا الموضوع: