صفية كاظم محمد/ طالبة دكتوراه في اللغة العربية- اللغة
إختار مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437ه) عنوانًا لكتابه وهو (الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة بعلم مراتب الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها) وهذا ما ذكره في ثناياه، إذ لا يقصد بهذه التسمية مجرد عنوان يُعرّف به كتابه، بل قصد معنًى أراد عن طريقة يبين غرضه، ويشير إلى هدفه، وقد كان كتاب الرعاية أول كتاب جامع معروف في علم التجويد وصل إلينا، و نصّ مكي على سبقه في هذا الموضوع قائلاً:” وما علمت أن أحداً من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب، ولا إلى ما جمعت فيه من صفات الحروف وألقابها ومعانيها، ولا إلى ما اتبعت فيه كل حرف منها من ألفاظ كتاب الله تعالى، والتنبيه على تجويد لفظه، والتحفظ به عند تلاوته”، وخطرت فكرة هذا الكتاب في فكر مكي قبل ثلاثين سنة من تأليفه له ، معللًا ذلك بعدم وجود مؤلَف سابق يعينه على التأليف فيه.
حُقِق كتاب الرعاية لأكثر من مرة، إذ حققه للمرة الأولى د. أحمد حسن فرحات، وهو ما نصّ عليه في مقدمة التحقيق، قائلًا: ” هذا هو الكتاب الأول من مؤلفات الإمام (مكي بن أبي طالب القيسي) – التي أتيحت لي فرصة تحقيقها أثناء دراستي لمكي وتفسيره، حين كنت أحضر رسالتي لنيل درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن… يأخذ طريقه إلى الطباعة والنشر، بعد أن بقي نحوًا من عشرة قرون رهين الرفوف والكهوف خبيء الخزائن والزوايا، يتطلع بلهفةٍ وشوقٍ إلى اليد الحانية التي تفكُّ قيده، وتطلقه من إساره وتنفضُ عنه غبار السنين”. وحُقق كذلك من قِبل مكتبة قرطبة ( للبحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي)، كما طُبع طبعات عدّة.
ومنهج الكتاب يكاد يطابق منهج كتاب (سرّ صناعة الإعراب) لابن جني (ت 392ه)، مع ما أضاف من إضافات مهمة ، وانتهج فيه منهج التحليل والتعليل والمقارنة والتمثيل، مع حُسن تدليل، ودقة تعبير، وانماز البحث عند مكي بمزايا كثيرة، إذ انماز بحسن جمع، وعمق نظر، وجودة تحليل، ودقة نقد، وبراعة استدلال، ووضوح عبارة. بل إنه جمع إلى ذلك جميعًا حسن الوزن بين الإيجاز والإطناب في كل مقام بما يقتضيه.
وغاية تأليف هذا الكتاب هو طلب القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة، التي لا مضغ فيها ولا لوك، ولا تعسف ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع، لا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بوجهٍ من وجوه القراءات والأداء، بمعنى أنّه طلب الصورة التي تتفق مع الطبع وتميل إليها القلوب والأسماع، فضلًا عن ذلك إثارة دوافع المؤمن، وتحريك عواطفه، ليقبل على كتاب الله، تعلمًا وتعليمًا، ودراسةً وتجويدًا، وعملًا وتطبيقًا، مخلصًا عمله كلّه لله رب العالمين، وهذا ما نصّ عليه قائلًا: “وإنّي لمّا رأيت هذه الحكمة البديعة والقدرة العظيمة في هذه الحروف التي نظمت ألفاظ كتاب الله- جلّ ذكره-، ووقفت على تصرفها في مخارجها وترتيبها عند خروج الصوت بها، واختلاف صفاتها وكثرة ألقابها، ورأيت هذا وبيانه متفرقًا في كتب المتقدمين والمتأخرين، غير مشروح للطالبين، قويت نيتي في تأليف هذا الكتاب وجمعه… ليكون الوقوف على معرفة ذلك عبرةً في لطف قدرة الله الكريم، وعونًا لأهل تلاوة القرآن على تجويد ألفاظه وإحكام النطق به”.
واتسم كتاب الرعاية بالشمولية، إذ جمع مكي القيسي مادته الصوتية من بطون الكتب السابقة له، فقد ذكر مجموعة من اللغويين أمثال الخليل (ت 170ه) وسيبويه (ت 180ه)، والمقرئين أمثال عاصم (ت 127هـ)، وأبي بكر بن مجاهد (ت 324هـ)، وغيرهم كثير في ثنايا كتابه، وتم تطبيق هذه المادة الصوتية على اللفظ العزيز من كتاب الله الكريم، وغايته من كل هذا هو تجويد القراءة، وتحقيق لفظ التلاوة كما عنون كتابه.
ولم يكن مكي مجرد ناقل للعلم وحسب -وكفى بنقل العلم شرفا- بل اسهم بفكره الثاقب، ودقق بنظره، ورجح بعقله، مضيفًا من تجاربه، فظهرت شخصيته واضحة في كل مسألة أو قضية تناولها، ولا سيما في حرصه على التعليل لكل ما يذكر.
روافد المقال:
أصوات العربية والقرآن الكريم (منهج دراستها وتعليمها عند مكي بن ابي طالب المتوفى سنة 437هـ)، د. عبد الله ربيع محمود الأستاذ المشارك بالكلية، مجلة (كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود عام 1400هـ، العدد العاشر.
أهمية علم الأصوات اللغوية في دراسة علم التجويد، أ. د. غانم قدوري الحمد، مركز تفسير للدراسات القرآنية- المملكة العربية السعودية- الرياض، ط2، 1436هـ- 2015م، 22.
الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، صنعة الإمام العلّامة ابي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (437هـ)، ت: د. أحمد حسن فرحات الأستاذ المساعد بجامعة الكويت، دار عمّار- عمان- الأردن، ط2، 1404هـ- 1984م.
نحو دراسة الصوتيات العربية من خلال جهود الإمام مكي بن أبي طالب القيسي في كتاب الرعاية نموذجًا، أمجد علي سعادة، معالم القرآن والسنة (مجلة محكمة) السنة السادسة، العدد السابع- 2011، 12.
النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (٨٣٣هـ)، ت: علي محمد الضباع (المتوفى ١٣٨٠ هـ)، المطبعة التجارية الكبرى.